لم يعد الإعلام الجمعوي تلك المنابر المحدودة التي تنشئها الجمعيات، وتهتم بتنظيم تظاهرات تنشيطية مثل إذاعة المعرض أو المهرجان، أو إذاعة المخيم وإذاعة الشاطئ فقط؛ فقد ارتفعت حالياً عدة أصوات لجعل هذا النوع الإعلامي واقعاً أكبر في الساحة الإعلامية من أجل الاعتراف القانوني به، سواء في المغرب أو في مجموعة من الدول العربية.
إذاعات جمعوية عبر الإنترنت
شكل الدستور الجديد في المغرب لسنة 2011، فرصة مهمة للفاعلين الجمعويين للمطالبة بتقنين الإذاعات الجمعوية، بعدما صرح بأهمية الجمعيات ودورها في التنمية المحلية. إذ ينص الفصل الثاني عشر من الدستور على الحق في تأسيس الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، وحقها في ممارسة أنشطتها والمساهمة في قضايا الشأن العام. كما جاء الدستور الجديد، لأول مرة في تاريخ المغرب، بحق كل مواطن في الحصول على المعلومات لدى المؤسسات العمومية.
تبث الإذاعات الجمعوية برامجها على شبكة الإنترنت، وتستقطب مجموعة من الشباب للعمل ضمن فريقها بشكل تطوعي. تقوم هذه الإذاعات بأدوار متنوعة داخل المجتمع أهمها اضطلاعها بصحافة القرب، أي أنها تتناول العديد من القضايا المحلية التي تهم المناطق التي توجد بها، فتقدم أدواراً مهمة في المناطق البعيدة عن مراكز القرار والفقيرة والمهمشة، من خلال دور التنمية المحلية. وتتنوع تخصصاتها من إذاعة إلى أخرى، غير أنها تواجه تحديات كبيرة كسائر وسائل الإعلام، من قلة مصادر التمويل وعدم استمرار الشباب في التطوع لمدة طويلة. وحالياً ماتزال تشتغل هذه الإذاعات تحت إطار الجمعيات المدنية في المغرب، إذ تعتبر بمثابة نشاط من أنشطتها الجمعوية.
وتعرف منظمة (اليونسكو) الإذاعة الجمعوية بأنها: وسيلة للتواصل لا تهدف إلى تحقيق الربح، تعود ملكيتها إلى جماعة معينة تضطلع بتسييرها، وتهدف إلى خدمة مصالحها، وتشجيع الولوج لأنشطة الجماعة والمشاركة فيها، كما تعكس الاحتياجات والمصالح الخاصة للجمهور الذي تتوجه إليه.
تحرير إعلامي دون إذاعات جمعوية
كانت سنة 2002 تاريخية على الصعيد الإعلامي في المغرب، حين صدر قانون يضع حداً لسيطرة الدولة على البث الإذاعي. فتم تأسيس الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري، التي تمنح تراخيص إنشاء المحطات الإذاعية والتلفزية، ورأت النور إذاعات خاصة عدة، في وقت لا يسمح فيه، للإذاعات الجمعوية بالبث على الموجات الأرضية. ولمواصلة الاشتغال قامت الجمعيات المغربية بإنشاء إذاعاتها الجمعوية على شبكات الإنترنت.
والإذاعة الجمعوية هي منبر تواصلي يبث للعموم، يهدف إلى الإسهام في الشأن المحلي عبر تبنيه سياسة القرب والتواصل مع كافة شرائح المجتمع. ومن النماذج في المغرب تجربة إذاعة (صوت ورزازات) في الجنوب الشرقي. محمد هوزان مدير المشروع يرى أن الإذاعة، (رسمت خطاً مغايراً لما هو شائع باعتمادها على برمجة متنوعة منتظمة بدل المناسباتية المعهودة، بل حاولت محاكاة المحطات التقليدية وتوسيع قاعدة المستمعين، عبر البث 24 ساعة طيلة الأسبوع، وكل الهم كان الاستمرارية. تسع سنوات من العصامية والجهد الذاتي كفيل بأن يجعل من المنبر رائداً على صعيد الإذاعات الجمعوية بالمغرب، حسب دراسة قام بها طلبة الماستر بأكادير في مجال الإعلام).
إذاعة (صوت ورزازات) تهتم بكل ما هو محلي، في شتى المجالات من تعليم وثقافة واقتصاد واجتماع ورياضة، من خلال بث الأخبار والبرامج واستضافة كافة مشارب القطاعات المدنية والرسمية. بث على مدار الساعة لأهم البرامج في ساعات الذروة مع إعادات لها وفقرات موسيقية. يضيف مدير الإذاعة، بأنها حركت ما هو راكد في مجال الإعلام بالمنطقة، وحاولت قدر المستطاع حسب الهامش المتاح، مواكبة هموم الساكنة في كل تجلياتها دون نسيان الدور المحوري في المساهمة في تثمين الجهد الجمعوي والثقافي والفني بالمنطقة، عبر تغطية جل التظاهرات والمهرجانات وصدى ملاعب الجنوب الشرقي. وإجمالاً يقول محمد هوزان: (لا يمكن الجزم أنا كنا قريبين من نبض الشارع كما نتوخاه لظروف موضوعية وذاتية وهامش الحرية، لكن ما أنجز جعل لصوت ورزازات بصمة في الساحة محلياً وجهوياً ووطنياً وحتى عربياً).
يتكون فريق عمل الإذاعة من مجموعة من المتطوعين، هي أنموذج من بين عشرات الإذاعات الجمعوية التي تبث عبر شبكات الإنترنت في المغرب، وتحاول إرضاء جميع الأذواق، فتتنوع برامجها بين الإخبار والتثقيف والترفيه. دور لا يمكن المضي فيه قدماً إلا من خلال تقنين مجال الإذاعات الجمعوية في المغرب، يضيف هوزان مدير (صوت ورزازات): لأن خصوصية القرب المجتمعي تبقي للإذاعة ذاك التميز والوهج للبقاء والاستمرار، لكن في ظل مأسسة حقيقية في كل أبعادها القانونية والبشرية والمادية، لتنتقل من الهواية والعصامية إلى المهنية وتؤدي دورها المنشود كمثيلاتها في الغرب بنمطية محلية، وكل هذا رهين بالقرار السياسي والرغبة في حل الباب لهذا الإعلام الجمعوي ليلعب دوره المنوط به.
إن أبرز توصيات الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع، المنظم بالمغرب سنة 2010 بين الفاعلين في السياسة والمجتمع والإعلام، تدور في فلك تشجيع الإعلام الجمعوي وتأطيره وضبطه من خلال تقديم أشكال مختلفة من الدعم العمومي، دون إغفال (إعلان مراكش) سنة 2011 المرتبط باللقاء الدولي حول الإعلام الجمعوي، لبلورة القيم الإنسانية الرفيعة، وعلى رأسها حرية التعبير والرأي. فلتحقيق مواطنة فاعلة عبر الإعلام الجمعوي، يجب أن يكون مؤطراً بمرجعية حقوق الإنسان وبأخلاقيات العمل الإعلامي.
هل الإذاعة الجمعوية بديل إعلامي؟
ثمة من يرى هذا النوع الإعلامي الجمعوي وسيلة بديلة للإعلام القائم في الدولة، سواء أكان رسمياً أم حكومياً أو حزبياً واقتصادياً، بديلاً عنها كلها، من خلال إتاحة الفرصة للمواطن بتلقي مادة إعلامية من منظور آخر. وكان مصطلح الإعلام البديل ظهر منذ الستينات من القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، حين رأى المجتمع المدني احتكار الإعلام من طرف قوى حكومية أو اقتصادية أو غيرها، فخلق إذاعات مدنية لا تتبنى مواقف تلك المؤسسات، أي وسائل إعلام تطوعية بديلة للإعلام الرسمي والتجاري.
يرى الكاتب نصرالدين لعياضي في كتابه: (الاتصال والإعلام والثقافة.. عتبات التأويل)، أن وسائل الإعلام البديلة، (تقدم مضامين بديلة للإعلام الرسمي والتجاري. وإعلامها مجاني في الغالب، ينتجه هواة أو محترفون في إطار عمل تطوعي ويبثونه. ويمتنع عن نشر الإعلان أو بثه. ويستمد هذا الإعلام قوته من النشاط السياسي والجمعوي والمهني. ويوظفه الجمهور الذي يتهم زوراً بأنه سلبي وخامل كأداة للتعبير عن ذاته وانشغالاته وأفكاره ذات الصلة بالشأن العام).
وفي فرنسا كمثال، الإذاعة الجمعوية مؤطرة قانونياً منذ بداية القرن العشرين، مع تبني قانون الجمعيات لسنة 1901. إذ يوجد بها ما يفوق ألفي إذاعة جمعوية، يؤطرها حوالي عشرة آلاف متطوع، ويشتغل بها 1200 شخص. كما أن لها ميزانية سنوية بما معدله 100 ألف يورو سنوياً للإذاعة الواحدة، وفق الدليل القانوني والضريبي للإذاعات الجمعوية الفرنسية.
وقد تم الاعتراف بنظامها مع قانون الاتصال الذي يسمح للإذاعة الجمعوية بالاستفادة من مجموعة من الامتيازات القانونية كالترددات والدعم العمومي. أكثر من ذلك السماح للإذاعات الجمعوية بالاستفادة من الحصص الإشهارية في حدود معينة.
وقد استفادت الإذاعات الجمعوية في العالم ككل من الثورة الإعلامية والرقمية، خصوصاً في الدول الممنوع فيها قانونياً مثل المغرب والدول العربية، بانخراط الآلاف من مستخدمي الإنترنت لإنتاج خطاب إعلامي يقدم أخباراً وبرامج مختلفة عن وسائل الإعلام الرسمية والتقليدية.
وحسب نصرالدين لعياضي، استطاع ما سماه الإعلام البديل، الكشف عن تناقضات وسائل الإعلام التقليدية أو تفكيك عناصرها وإعادة تركيبها، وفق منطق جديد وبنية مغايرة من أجل إنتاج خطاب إعلامي، يقدم معاني مختلفة وحتى مناقضة لما أرادت وسائل الإعلام الرسمية قوله. فهذه التكنولوجيا لم تساعد الإعلام البديل أن يكون معارضاً للإعلام الرسمي فحسب، بل مكنته من معارضة الإعلام المؤسساتي.