مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

يوهان باخ.. أيقونـة الموسيقى وأسطورتها

الموسيقى عالمٌ واسعٌ مليءٌ بالرقة والأحاسيس والمشاعر الصافية التي تنقلها لنا الأنغام الصادرة عن آلاتٍ متعددةٍ بأنامل أمهر العازفين وألحان يخطّها أبرع الملحنين. وفي هذا السّياق سنتحدث عن أحد أشهر عباقرة الموسيقى الغربيّين، إنّه العازف والمؤلّف والملحّن البارع يوهان سباستيان باخ، الألماني الأصل، والذي تميّزت مؤلّفاته الموسيقيّة بقدرتها الكبيرة على إثارة المشاعر وتجييش العواطف.
ولد باخ في 21 مارس عام 1685م في مدينة أيزيناخ الألمانية. ومن العوامل التي ساهمت في إبداعه وشهرته أنه ولد في عائلة موسيقيّة ومتوارثة للموسيقى، فقد كان والده أوّل معلّم له في هذا المجال، وهذا ما زاد شغفه وتعلقه بالموسيقى، لكنه تيتّم في عمر العشر سنوات فرعاه أخوه الكبير كريستوف الذي كان أيضاً عازفاً ومعلماً للموسيقى، فلقّن باخ أسس الغناء والتّلحين، ومن ثم أتقن باخ العزف على الكمان والأرغن، وبدأ تعليمه في مدرسة في لونيبورغ، وعرف فيها بجمال صوته وإتقانه عزف الكمان والهاربسكورد.
في بداية حياته الموسيقيّة عمل عازفاً في العديد من الكنائس، وبعدها شغل منصب عازف الأرغن في إحدى كنائس آنشات الألمانية. وبالإضافة إلى ممارسة مهنة التّعليم الموسيقي، والتي واجه خلالها العديد من الصّعوبات؛ فقد كان مسؤولاً عن عزف الموسيقى وتأليفها للمناسبات الدينية، وفي عام 1705م سافر باخ إلى مدينة لوبيك الألمانية للاستماع إلى عازف الأرغن الشّهير ديتريش بوكستهود، أمّا في عام 1707م فقد شغل منصب عازف الأرغن في كنيسة القدّيس بليز في مولهاوزن، وعندما ذاع صيته بين طبقة الأمراء والنبلاء عُيّن في بلاط الدوق ويلهلم إرنست في مدينة فايمار، وعندها كتب أشهر معزوفاته، مثل: سيمفونية التوكاتا والفوجا، قام باخ أيضاً بتأليف حفلات موسيقيّة للأوركسترا وكونشيرتو وسوناتا لآلات متعدّدة أثناء وجوده في كوثين، بالإضافة إلى كتابته الكثير من المقطوعات لآلات منفردة. ومن أعظم الحفلات الموسيقيّة التي قام بها عام 1721م سلسلة من حفلات الأوركسترا التي أنشأها تكريماً لدوق براندنبورغ، والتي أصبحت تعرف باسم كونشيرتو براندنبورغ، كما أحبّ باخ مشاركة الموسيقى مع أفراد عائلته، وبخاصة أبناؤه، فكانت بعض موسيقاه من الملحنين مثل فيلهلم فريدمان وكارل فيلين إيمانويل ويوهان كريستيان الذي كان يدعى باخ الإنجليزي.
ومن الجدير بالذّكر أن موسيقى باخ تنتمي إلى الموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة، من عصر الباروك. ومن أبرز أعماله: مجموعة التّشيلو سويت، بدينيري والفوغا الصغيرة.. وغيرها الكثير، لكن شهرته والتّقدير العالمي لأعماله لم يكن إلا بعد وفاته، فقد كان ينظر إليه على أنه قديم الطّراز، ويمكن القول إن طبيعة القديم والجديد في موسيقى باخ بارزة المعالم، وتؤسس تميزاً تاريخياً بقي متبعاً حتى القرن العشرين. وفي بداية القرن التّاسع عشر سطع نجمه، وذلك بفضل جهود الملحّن فيليكس مندلسون الذي اكتشف عبقريّة باخ في مؤلّفه (الآلام)، وأصبح بفضله اليوم واحداً من أعظم الموسيقيّين في كل العصور.
خلّد أعماله ومسيرته الفنّية العديد من المؤلّفين، مثل: المؤلّف كريستوفر وولف الذي ألّف كتاباً بعنوان (يوهان سباستيان باخ.. الموسيقي المعلم). والمؤلّف جون إليوت جاردنر في كتابه (باخ.. الموسيقى في قلعة السّماء)، يقدّم هذا الكتاب استكشافاً تفصيليّاً لحياة باخ وعمله وموسيقاه، ويوفّر فهماً عميقاً لتقنيات تكوين باخ والتّأثيرات الموسيقيّة، ويكشف عن الرّوابط بين موسيقى باخ وحياته الشخصيّة. وبالإضافة إلى ذلك فقد ساهم بعض الموسيقيين المبدعين الذين أتوا بعده في صون معزوفاته من النسيان، ويعود ذلك لحماس بعضهم وتقديرهم لروعة هذه المعزوفات، ونذكر منهم مثلاً: موتسارت وبيتهوفن، وعلى وجه الخصوص مندلسون الذي أعاد إحياء إحدى مقطوعات باخ في حفل ضخم في ألمانيا عام 1829م، أي بعد مرور حوالي ستين عاماً على وفاة باخ، ولولا ذلك لما عرف باخ إلا عازف أورغن موهوب، وعلى أنه ذلك الرجل ذو الشعر المستعار الأبيض المصفف بعناية.
كان باخ يمتلك صوتاً جميلاً، وهذا ما ساعده على الانضمام إلى مدرسة لونبيرج، ولذلك كان على وشك دخول عالم الغناء، لكن تغيّر صوته بعد مدة قصيرة كان سبباً في نقله للعزف على الكمان، وفي آخر سنوات حياته عانى الموسيقي المبدع باخ من ضعف بصره، لكنه استمر في العمل، وقدّم العديد من حفلات الأوركسترا في عدة مدن أوروبية، وفي عام 1749م بدأ بتأليف مقطوعة فن (الشرود) لكنه لم يكملها، ولم يستسلم لمعاناته من ضعف بصره بل حاول إصلاحه بإجراء عمليّة جراحيّة لكن العمليّة انتهت بفقدان بصره تماماً، إلى أن انتهت حياته عام 1750م، ودفن في كنيسة القديس يوحنا، ثم نقل ما تبقى من رفاته سنة 1894م إلى كنيسة سان توماس ولاءً وتقديراً له.
وكما هو الحال فلكلّ شيءٍ نهاية، رحل الموسيقي العبقري يوهان باخ، لكن نهاية مسيرة حياته لم تكن ككل النّهايات بل كانت بداية لمرحلة جديدة من الشّهرة وبحلّة مختلفة، فسرعان ما لمع اسمه مجدداً، وسطعت أعماله على يد بعض المؤلّفين والموسيقيّين الذين تأثّروا بأسلوبه، ونهجه وبالإرث الموسيقي الذي تركه للأجيال بعده، ولكلّ أُذن تعشق الأنغام العذبة، ولكل قلب يطرب لها، ويسافر معها إلى عالم آخر مليء بالرّاحة والطمأنينة والسّعادة التي ليس لها حدود.

ذو صلة