مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

برامج اكتشاف المواهب

في ظل انتشار المحطات الفضائية، وحمى التنافس التجاري لاستقطاب أكبر عدد من المشاهدين؛ تغيرت نوعية برامج الترفيه العربية، ليصبح البذخ الإنتاجي فيها واضحاً، بهدف الوصول إلى مردود إعلاني ورعايات تجارية ضخمة تدر الأموال على المنتجين.

كانت برامج المواهب العربية على رأس قوائم برامج الترفيه العربي، وربما كانت أكثرها إنتاجاً بأشكال وصيغ مختلفة، منها ما هو مبتكر عربياً، ومنها ما كان نسخة معرّبة لبرامج عالمية لها علامتها التجارية.

فهل حققت برامج اكتشاف المواهب على مختلف المستويات الهدف الرئيس منها، وهو اكتشاف المواهب؟ وهل جوهر تلك البرامج الموهبة فعلاً؟

الإجابة عن السؤال لا تحتاج إلى دراسة مستفيضة للوصول إلى نتيجة مفادها أن الإعلام الفضائي العربي عموماً محكوم بقواعد التجارة والربح لأي منتج يتم تقديمه على الشاشات، وأن ما يتم بثه يتم احتسابه بالدقيقة كسلعة تجارية لا بد أن تحقق إيرادات مضمونة، خصوصاً بعد أن كان خلفه إنتاج ضخم، ومن ذلك برامج اكتشاف المواهب التي باتت مترفة في عمليات الإنتاج، وتحت رعايات تجارية ضخمة، لشركات كبيرة، يهمها جداً أن تحقق عائداً من وراء ما ضخته من أموال في تلك البرامج.

قبل مرحلة الفضائيات، وفي محطات التلفزة الأرضية التي كان أغلبها يبث بنطاق محلي لا يتجاوز جغرافية البلدان التي هي فيها؛ كانت برامج اكتشاف المواهب تسعى فعلياً لاكتشاف المواهب المحلية، لا في مجال الغناء وحسب، بل في مواهب العلوم والتكنولوجيا والمعرفة والشعر والقصة، وغيرها من مواهب متعددة يتمتع بها الشباب، وكان الإنتاج المتواضع حينها يعمل على التنسيق غالباً مع المؤسسات التعليمية من مدارس وكليات وجامعات ومراكز شبابية محلية لانتخاب مرشحي تلك المواهب، ثم تسجيل حلقات المسابقات مع تلك المواهب التي تصل في مراحل نهائية إلى التأهل النهائي وكسب الجوائز المتفاوتة بين كؤوس نحاسية أو مكافآت مالية برعايات متواضعة.

لكن، في عام 1972، كان التحول الأول والجذري بمفهوم مسابقات الغناء واكتشاف المواهب الغنائية على يد صانع النجوم اللبناني سيمون أسمر، وهو المخرج والمنتج لأول برنامج اكتشاف مواهب على مستوى عالٍ من الحرفية والإنتاج والإبهار على محطة تلفزيون لبنان.. برنامج (ستوديو الفن). كانت الحلقات التي أنتجها سيمون أسمر في محطات التلفزة اللبنانية منذ فترة السبعينات كافية لإنتاج أجيال متعاقبة من نجوم الغناء في العالم العربي. فعلى الرغم من أن السيدة ماجدة الرومي هي ابنة الفنان والموسيقار الكبير حليم الرومي الذي اكتشف السيدة الكبيرة فيروز أول مرة؛ إلا أن المفارقة تكمن في أن ابنته الفنانة ماجدة كانت من المواهب المكتشفة عند سيمون أسمر في برنامجه ستوديو الفن، بالإضافة إلى أن ستوديو الفن دشن نجومية كبار آخرين مثل وليد توفيق وراغب علامة وأليسا ووائل كفوري.. وغيرهم. ومن برنامج ستوديو الفن، بدأت محطات عربية أخرى بإنتاج برامج مشابهة له، لاكتشاف مواهب أغلبها في فن الغناء، وبعضها كان في اكتشاف مواهب الشعر والشعراء، خصوصاً في محطات التلفزة لدول الخليج العربي.

طورت فضائيات -الخليجية خصوصاً- فكرة برامج اكتشاف المواهب في مجالات أخرى كالشعر، مثل برنامج أمير الشعراء أو شاعر المليون، وهي برامج وجدت جمهورها الواسع، مما يعني أنها أيضاً وجدت رعايات تجارية سخية ساعدت على استقطاب الإنتاج الضخم وبناء علاقات عامة ترويجية حققت لبعض المشاركين حضوراً جماهيريا لافتاً.

في مجالات أخرى، مثل العلوم والتكنولوجيا، فإن شبكة إم بي سي، التقطت الفكرة مؤخراً لتنتج على إحدى قنواتها برنامج (نجوم العلوم) الذي دخل موسمه الثاني بحضور جماهيري مقبول، لكن لا يمكن قياسه بالحضور الجماهيري لبرامج اكتشاف مواهب الغناء، وربما يعود ذلك إلى أن النجوم المشاركين في برامج الغناء والفنون هم عنصر استقطاب رئيس للمشاهدين. ويعزز ذلك أن هناك برنامج مواهب متنوعة آخر تنتجه أيضاً شبكة إم بي سي هو (أرابز غت تالنت) الذي لا يعنى بالغناء حصراً بل بكل موهبة تستحق الوقوف على المسرح وتبهر المشاهدين، ولكن لجنة التحكيم تتشكل من مشاهير في عالم التمثيل والغناء والإعلام وليسوا بالضرورة من المتخصصين.

عموماً، التسابق المحموم في عصر الفضائيات على تحقيق السبق في برامج اكتشاف المواهب؛ أفقد تلك البرامج هدفها الأساسي في اكتشاف المواهب لحساب الجانب التجاري الذي يدر أرباحاً، فغدا المظهر أهم من الأداء، والأداء أهم من الصوت، والعرض ترفيهي أكثر من أن يكون فنياً إبداعياً، فاختلط الفن بالترفيه وبالاستعراض.

وربما أخطر مخرجات تلك الحالة التلفزيونية العربية هو في البطالة الفنية التي تخلفها تلك البرامج وراءها، فالكثيرون ممن يفترض أنهم أصحاب مواهب أبرزت نجوميتهم تلك البرامج؛ سرعان ما يخفت ضوؤهم بعد آخر حلقة على الهواء، لنصل إلى حالة بطالة فنية تشكل مصدراً جيداً لصحافة صفراء تتسابق لنشر ثقافة الخبر الخالي من المضمون والمعنى.

صحيح أننا لا يمكن أن نبخس بعض برامج اكتشاف المواهب حقها في تعريف الناس بفنانين حقيقيين، لكن لا يمكن من جهة أخرى إنكار أن تلك البرامج عموماً، وعبر تنافسها الساخن؛ أفرزت ظاهرة الترفيه على حساب الفن الحقيقي والإبداع والموهبة، وفي الوقت نفسه لم ترتق بذائقة الجمهور قدر ما قادته بإعلام ذكي ومضلل نحو كرنفالات الألوان والتشويق والتسلية وما يريده المنتجون في النهاية.

 

ذو صلة