مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

طعم براءة الطبيعة

لم تخرج الكاميرا في فيلم (The Ballad Of Narayama) (رحلة نارياما) عن البيئة المحدَّدة لتصوير الحكاية، مما جعلنا نسكن المكان ونتعايش فيه طوال مُدَّة عرض الفيلم التي تجاوزت الساعتين، عشنا خارج حياتنا واندمجنا وسط الأشجار، والثلوج، والماء، والثعابين، والفراشات، والضفادع، والأسماك، والديوك، والثعالب، والكلاب. احتضنَّا الطبيعة واحتضنتنا الطبيعة وسط كادرات الفيلم.
ندخل الفيلم مع عين الكاميرا الموازية للصقر وهي تطوف بنا من أعلى المكان، لا نرى سوى الأشجار والثلج يغطي كل شيء ثم ندخل من وسط الثلوج لقلب البيت الخشبي النظيف، فنشعر بالدفء فجأة من وجود شعلة نار في الوسط.
فيلم بطعم براءة الطبيعة
الفيلم مأخوذ عن رواية للمؤلف الياباني (شيتشيرو فوكازاوا) باسم (نارياما) قام بالإخراج (إيمامورا شوهيه) حصل الفيلم على جائزة السعفة الذهبية، وجائزة الأكاديمية اليابانية لأفضل فيلم، وأفضل ممثل والذي قام به (كين أوغاتا) في دور ابن أورين (تاتسوهي) والذي نجح في دوره ببراعة، وأوصل لنا حالة إنسانية تعاني من الفَقْد والتأزم الجميل، وأعطانا جرعة من الإصرار والحب النادر بملامح وتعبيرات وجهه، أما الممثل (تونبي هيدراي) والذي قام بدور (رسكي) فقد أضحكنا كثيراً في الفيلم، إلى جانب الحزن الشفيف الذي أعطانا مسحة منه في بعض تصرفاته على الشاشة، كان تونبي قادراً على جعلنا ننتظر ظهوره برائحته العفنة ومواقفة التي تشبع فينا روح المرح والشفقة في ذات الوقت.
التصوير بديع، ينقلنا مع مجموعة ناس منعزلة عن العالم، لهم عالمهم الخاص، فعلى الرغم من وجود بندقية في الفيلم تم اصطياد أرنب بها، إلا أننا لم نر أي شيء من خارج هذه القرية سوى بائع الملح الذي أتى للقرية ورأيناه مرة واحدة ليؤكد لنا أننا نعيش في قرية منعزلة.
الفيلم إنساني بالدرجة الأولى، يرجع بعقولنا للحياة البدائية البسيطة، بدون أي مزعجات، فقط الحياة مع الطبيعة، بكل ما تمنحه الطبيعة البكر، فقط أنت والزرع، والحيوانات. لم نشعر بالملل لمدة 130 دقيقة، فقد منحنا المتعة البكر، والاتحاد مع الطبيعة، والرغبة في العودة لهذه الحياة بكامل مكوناتها البسيطة، الرغبة في أن نقطف الثمار وأن نأكلها طازجة في العراء، وأن نلقي البذور وننتظر أن تثمر.
اعتمد التصوير في مجمله على مساحة الأخضر والرمادي الناعم، فلم تظهر ألوان شاذة، والأحمر الدموي لم يحتل سوى مساحة صغيرة جداً في مشهد الجدة أورين وهي تطوف بأسنانها المحطمة في القرية، لقد كانت فَرِحَة بهذا الأحمر الدم، والمشهد الآخر حين أصيب ابنها (تاتسوهي) في قدمه أثناء حملها والصعود بها للجبل.
تم التصوير بما يوحي بهدوء العالم وهذا يتوافق تماماً مع طبيعة الحياة التي نقلتنا إليها الكاميرا، إلى جانب التوازنات بين الإنسان وبيئته التي يعيش فيها، والكائنات التي يحيا معها، فلحظة التزاوج بين البشر يقابلها في نفس الوقت تزاوج بين ثعبانين، أو فراشتين، يريد أن يقول ببراعة إن حالة الزواج حالة متوافقة تماماً مع الطبيعة، فالزواج في الفيلم كان يتم بدون عقود زواج، فقط الفتاة تأتي لتعيش مع الأسرة التي فيها الشاب الذي تحبه، كما حدث أمامنا للثعابين والفراشات، كانت مشاهد الفيلم ناعمة وبعيدة عن المناظر الشاذة. ومشاهد الليل أعطتنا حميمية مع الطبيعة، بدت الراحة واضحة على الطبيعة بعد عناء يوم نهار طويل، فالكل في استرخاء، أنت والأرض والحيوانات والسماء، والطيور.
لم يكن هناك عنف في هذه الحياة، حتى المعارك، كانت بسيطة، وبلا دموية، كانت الجريمة العظمى في هذه الحياة المفعمة بالرفاهة هي السرقة، كان جزاؤها الدفن حياً، فلا سرقة في هذا المجتمع الفطري.
الحوار منذ البداية وحتى النهاية سلس وممتع يقوم بتسريب المعلومات الضرورية للمشاهد عن الشخصيات والأحداث، مما يجعلنا نتابع الفيلم بوعي كامل دون إسهاب أو قصر، أو غموض، كل شيء واضح. فحين ينتهي الثلج سريعاً ويخرج من الأرض نبات أخضر، تزهر الكاميرا وتتفتح المَشَاهد أمام أعيننا، شمس واضحة، صقر يقف بشموخ، مشاهد طبيعية مفرحة والسماء من فوقنا صافية وزرقاء.
الصعود إلى الجبل على ظهر الابن
رحلة الصعود إلى الجبل أخذت مساحة وافية من الفيلم تستحقها، فكل ما في الرحلة يبدو عميقاً نحو الصعود للأعلى، بداية من الطريق الوعر الذي شاهدناه وسط الصخور، والمواقف التي امتلأت بمعاناة الابن وهو يحمل أمه فوق ظهره طوال الرحلة، فالصعود كان شاقاً. ظهرت الجماجم في الطريق موحشة وقاسية وملقاة بلا أهمية أوحت وأكَّدت أن الموت هنا في هذا المكان صعب، وأن الحياة في الأسفل جميلة رغم صعوبتها وندرة الغذاء فيها، والغربان كانت تنتظر لتأكل كل من يريد الصعود لأعلى، لكن مشهد الجدة أورين الأخير ظهر فيه كل الطهر، وكل الشفافية، كانت تشاهد آثار الموت بعين السعادة، هل منحتنا الرغبة في الصعود للجبل؟! فالسعادة التي أحاطتنا بها جعلتنا نفكر للحظة أن نصعد الجبل.
من المشاهد المؤثرة والناجحة في الفيلم في مشهد صعود الجبل حين ترك الابن أمه ليشرب، ولما عاد لم يجدها، وجد مكانها عصفوراً ففرح، لقد اعتقدنا نحن المشاهدين أن الجدة قد تحوَّلت إلى هذا الطائر الوديع، أخذها الابن وأطلقها في الهواء بفرحة من يطلق أمه للجنة، وحين فوجئ بها أمامه، ارتج وارتعب.
الجدة أورين مفتاح الحياة الأخرى
الجدة (أورين) والتي قامت بها الممثلة المتميزة (سوميكو ساكاموتو)، مواليد 25 نوفمبر 1936 كانت وقت الفيلم في السابعة والأربعين، لكنها أعطتنا إحساس الجدة العجوز في السبعينات، لم تجعلنا نتصور أبداً أنها بهذا العمر الفارق، لقد نجحت بالفعل بقوة في تجسيد الدور، لم تفلت منها انحناءة ظهر، أو حركة جسد تخرج بها عن عمر الجدة أورين.
عندما بدأ الفيلم مع الثلوج كانت الجدة تصنع من القش حصيرة ستستخدمها فيما بعد للجلوس عليها في انتظار الموت، الجدة التي تبلغ من العمر 69 عاماً وتعلم أنت أن أسنانها قوية وأن صحتها جيدة جداً، لم نرها في حالة راحة طوال الفيلم أبداً، كان تواجدها فاعلاً بدرجة كبيرة، فهي دائماً حين تطل على الشاشة تجهز الطعام، أو تساعد في أعمال البيت، أو تشق الأرض، أو ترمي البذور، حياتها بدت لنا فاعلة ومنتجة والأسرة كلها قائمة على هذه الجدة، فهي الراعية الأولى، لكنها كانت ترغب في المغادرة، ولم نر وجهها يبتسم هذه الابتسامة العريضة التي أشعرتنا بأنها في فرح حقيقي إلا حين رأت زوجة ابنها الجديدة وتلك التي ستسلمها الراية من بعد صعودها للجبل، لحظة الإحساس بأن ترك هذا العالم قد اقترب، وأنه قد أتى من يحل محلها، كان مشهد استقبال (تامايان) هو المفصل في الفيلم، لذلك تم تأديته ببراعة وكان تمثيل (سوميكو ساكاموتو) لهذا المشهد رائعاً.
الجدة هي البطل الرئيسي في الفيلم، كل الأحداث تدور حولها وهي التي تدير الأحداث، تتحكَّم وتسيطر بسلاسة ودون تشنجات في جميع الأسرة، إنها الكبيرة، وكلمة واحدة منها تنهي مشاجرة، الجدة قوية بما فيه الكفاية حتى تعطينا مشهداً لها وهي تحاول أن تحطم أسنانها، وحين كسرت سِنَّين من أسنانها صارت فرحة. ونعلم أن للجدة أسرارها الخاصة، فهي تصطاد الأسماك من مكان لا يعلمه أحد غيرها، وهي تحتفظ بهذه الميزة لنفسها فقط، وحين أرادت أن تموت لم تترك الدنيا إلا وقد منحت هذه الميزة لامرأة أخرى كي تستمر الحياة بنفس الطريقة والقوة التي كانت تعيش هي بها.
الجدة تخلَّصت من كل شيء قبل أن تصعد الجبل، لقد منحت وأعطت كل من يرغب في أي شيء، كانت حريصة على إرضاء أسرتها قبل أن ترحل، كانت الجدة تعلم ما يريده كل فرد في أعماقه، فسعت جاهدة لتمنح الجميع قليلاً من السعادة وهي على وشك الرحيل.
دقت الجدة أسنانها بحجر في الطريق، ثم رطمت بعد ذلك أسنانها في حجر أسود كبير، كان الصوت مفزعاً لنا، لقد شعرنا أن أسناننا نحن هي التي تتكسَّر، كانت رغبة الجدة في إنهاء صلتها بالحياة رغبة علوية، كانت هذه هي بداية الرغبة في الخلاص من الحياة، ثم أكملت بقية الرسالة بتلبية طلبات الجميع، وأخيراً اتخذت طقس الصعود للسماء فوق الجبل. فقامت بتجهز نفسها للصعود وكأنها عروس، رتبت ملابسها، بألوانها الجميلة الرصينة، رأيناها تشعر بالراحة الموحية، كانت صامتة طوال الرحلة التي استغرقت ما يقرب من النصف ساعة على الشاشة أي ما يوازي ربع زمن الفيلم ككل.
كانت الجدة أورين هادئة تمنحنا الثقة في المكان الذي سوف تذهب إليه لتنال الموت، الثقة بأن هناك استقبالاً على الجبل سيمنحها ما لم تحصل عليه على الأرض. وجلست وحيدة فوق الجبل في صمت وتركتنا نشتاق إليها.

ذو صلة