مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

يا عبدالله فِلْبِي.. ماضٍ في حفيدتك سارا ما مضى فيك

أخط عن جدي عبدالله فلبي رحمه الله الكثير من السطور، بأسلوب يغلب عليه طبع العاطفة وشعور الانتماء. كيف لا؟ وهو لي الغائب الحاضر، ورفيق الرحلة التي كتب لي الخالق جل جلاله وتقدست أسماؤه بأن ألتمس وجوده في كل وقت وحين؟ عبدالله فلبي رجل ذو مسيرة حياة رفيعة يتعذر علي اختصارها، رجل أغدق كافة قواه في سبيل ما متعه الله سبحانه وتعالى به من علم وشغف بالاستكشاف والتحليل والتدوين وعشق للتصوير ورسم الخرائط. الرحالة والسياسي والمستكشف الإنجليزي عبدالله فلبي، أو هاري فلبي عند مولده؛ رجل أخذ من الغرب دقته، وأصله الوفير، وطباعاً عديدة، وسمات حميدة، ليضم لها إعجابه بشبه الجزيرة العربية في وقت لاحق من عمره، حتى وصل إلى مكانة تاريخية مميزة تشابه تفرد شخصيته وجاذبيته التي عرف بها، وما يزال يأسرني بها. الوقت الذي أمضاه في هذه الدنيا يضج بكم هائل من الاستكشافات والإنجازات، طالت جوانب عدة، منها: التاريخية والسياسية والجغرافية والشخصية. سأسرد هنا القليل واليسير مما يفيض به فؤادي من مشاعر الحنين تجاه عبدالله فلبي رحمه الله، مشاعر حفيدة له، خُطّت على هيئة أحرف سطرها قلبي قبل أناملي:

أأرثيك يا جدي؟ كيف لي أن أرثيك؟
وكل ما بي قد زها فيك،
قالوا بأنك منذ سنين قبل مولدي قد رحلت بعيداً،
فما بي مذ أدركتك دمت قريباً؟
أتيت من بلاد الغرب لبلاد العرب لأقدار كانت تنتظرك،
فجمّل الله رحلتك بأخلاق، قادتك لطباع، وعن غيرها كانت تنهاك،
فغدوت علامة فارقة، ناراً على علم زاده الإحسان لهيباً،
الذي بينك وبين من رزقك الدين والدنيا أحسبه أمراً عجيباً عجيباً.
نطق لسانك اللغات الجمة، فأهديتها أنت أكثر مما كانت تهديك،
استحسنوا فصاحتي يا جدي عندما نطقت بحبك، وياليت كلماتي تجزيك،
فما حالهم بحضرة طلاقتك ولسانك الذي كان عذباً عذيباً؟
إن البلاغة في عبدالله فلبي متأصلة، ليس هذا الواقع غريباً.
***
قطعت الربع الخالي وسطرته كنزاً وعلماً، لا شيء كان يلهيك.
لو كنت في وقتها حية أرزق؛ لكان حتماً يا جدي إلى الصحراء سآتيك،
قطعتها على القدم والجمل، أهي الرمال أم عنادك الذي كان كثيباً؟
دونت عن الصحراء الثمين، امتناني لك، ولكل ما كنت فيه مصيباً..
أهويت القلم؟ أم هو من اهتوى لمس يديك؟
سجلت التاريخ بعبقرية، ورسم الخرائط استبسطته أنت تحت ناظريك،
يا عبدالله فلبي، إنني أدون بإلهامك لحظات دنياي جملة وتفصيلاً،
لك عمري، ومن حبري وسطوري أجود ما يبدر مني روايةً وقيلاً..
***
أسرت نحو عوالم التاريخ والسياسة والحياة البرية، أم هرولت تلك العوالم إليك؟
أبدعت وأتقنت، قل مدحي أو كثر، من الشكر لن أوفيك،
كتبك تضج بجزيل الحقائق والتفاصيل، ولطائر حجل فلبي من اسمك نصيب،
لامست من حولك بجاذبية وبخلق حسن منك وطيباً..
***
جدتي روزي، رفيقة دربك وامرأة أنقى من الذهب والألماس في عينيك،
شاطرتها السعد، وفي المواساة كنت لها كتفاً وكانت كتفيك،
رحمك المولى سيدتي وألبسك في الجنان حريراً،
هنيئاً لعبدالله فيك بالدنيا، وهنيئاً له أنت في الفردوس أخيراً..
***
عمي خالد ووالدي فارس، أهما عيناك يا جدي أم ابتسامتا رضا على شفتيك؟
أكنت تبصر فيهما الجنات، أم تسمع منهما شدو عصفوريك؟
يا عبدالله فلبي، هما للزمان رجلان من ذهب، حوى كل منهما صدراً رحيباً،
بورك من زرع وبورك الحصاد أهلاً وحبيباً..
***
جسدك تحت الثرى في قبر، في بيروت هو الآن آويك،
محظوظة سماء بيروت، ليتك تدرك كم تعني لي سيرتك كما كانت تعنيك،
الرحمن الرحيم كان على نواياك الصافية رقيباً،
فكفى به لي ولك يا عبدالله فلبي حسيباً..
ولدت في ربيع نيسان، وانتقلت في خريف أيلول إلى من كان يحرسك ويحميك،
كالورد في فصوله أزهرت ورحلت، سبحانه الله أبدع في أقدارك وفيك،
يليق بك المجد، يا من ملأت دنياي هياماً وتهذيباً،
نصيبي الآن يا جدي دعوات أبعثها ومكاتيب..
لك من قولي ولفظي من الشهد أحلى ما خط وحيك،
من أوجدك في خاطري هو من يبقيك،
ذكراك في وجداني سهلت كل ما بدا لي صعيباً،
فاكتفيت بربي وربك لي ولك مجيباً..
***
يا عبدالله فلبي، ماضٍ في حفيدتك (سارا) ما مضى فيك،
هي السنين عادتها فيمن قبلك وفيمن يليك،
أسأل المولى بأن يجمل لقيانا في مكان ازدان طهراً وبريقاً،
يا جدي، ما رجوناه سيجعله الإله حقيقاً حقيقاً..

ذو صلة