مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

معركة مالابار.. مناضلة شعب ركعت أمامها الإمبراطورية البريطانية

كل عصر من العصور يحكي لنا قصة شعب رزح تحت سيطرة الأعداء ثم نهض كالعنقاء من بين الرماد واجتث جذور الاستعمار والاحتلال رغم قلتهم وضعفهم كأنها تتمثل آية القرآن الكريم (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة) بنصّها وفصّها. ولا يخفى على من له أدنى وبصيرة أن الاحتلال لم يدم لفترة طويلة في أية بقعة على وجه البسيطة بل اضمحلت السحب المكفهرة وبزغ الفجر النيق من جديد مطلعاً إلى يوم باسم بعد كل ليل حالك.
إن معركة ملابار عبارة عن قصة شعب قام بكفاح دؤوب سفكت فيه دماء أبنائه ضد الإمبراطورية البريطانية الغاشمة في عام 1921. خلدت تلك المعركة في ذاكرة الهند تاريخ رجال أبطال صمدوا صمود الجبال الراسيات ضد المحتلين وضحوا بنفسهم ونفيسهم لتحقيق الحرية من براثن الاستعمار. وقد كان لها أسباب ومقومات عدة مثل تقسيم الدولة العثمانية وانهيارها، وتعذيب الفلاحين المسلمين من قبل الإقطاعيين، والاضطهاد البريطاني العنيف الذي أهلك الحرث والنسل في كل أطراف الولاية وأصقاعها.
شعب مالابار وتاريخ مقاومته المجيد
مالابار هو اسم لمنطقة ساحلية في ولاية كيرالا الواقعة في أقصى جنوب الهند مطلاً على البحر العربي. وكانت لها علاقة تجارية وطيدة مع العرب منذ قديم الزمان وعريق الأيام، وخلفت هذه العلاقة علامات فوارق في ثقافتها وتركت بصمة كبيرة في مصيرها ومسارها. لقد اعتنق أبناؤها الدين الإسلامي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وبنوا في تربتها مساجد عديدة وأنشأوا فيها مدارس كثيرة حتى نجحوا في إقامة الدين على كعبيه. لها تاريخ عريق ثري بالنضال والكفاح، ضد الاستعمار البرتغالي والفرنسي والبريطاني، ترددت أصداؤه في كل الأصقاع.
في أواخر القرن الخامس عشر ألمت بهم الطامة الكبرى عندما أقبل إليهم فاسكو دا جاما (Vasco da Gama) حيث كان وصوله في شاطئ (كاباد) بداية احتلال البرتغاليين. لقد أراد جاما أن يستغل موارد هذا الأرض وطالب مسؤولي السامري -الذي كان ملك المنطقة آنذاك- بمنع العرب من التجارة، ولكن الملك أدرك مبكراً الخطر الداهم خلف هذا الطلب وأبى أن يسمح به. فرجع البرتغاليون إلى بلدتهم إلا أنهم عادوا بعد سنتين بجيش كبير وأغاروا على المواطنين الذين كانوا يقطنون في سواحل البحر. لقد أودى هذا الهجوم بحياة 600 شخص، وأدى إلى إحراق بيوت عدة. وقاموا خلالها بأعمال فظيعة من نهب المساجد وهتك عرض النساء وغيرها. وصبوا على المسلمين وابل الغضب والظلم.
يسلط العالم المشهور زين الدين المخدوم الثاني في كتابه (تحفة المجاهدين في بعض أخبار البرتغاليين) الضوء على وحشية البرتغاليين وفظائعهم التي يندى لها الجبين، فيقول: (سلط الله عليهم البرتغاليين من الإفرنج النصارى خذلهم الله تعالى، فظلموهم وأفسدوا فيهم، وفعلوا فعائل قبيحة شنيعة لا تحصى، من ضربهم والاستهزاء بهم والضحك عليهم إذا مرّوا بهم استخفافاً، وجعلهم مراكبهم في محال الماء والوحل، والبصق على وجوههم وأبدانهم، وتعطيل أسفارهم، خصوصاً وسط الحجاج، ونهب أموالهم، وإحراق بلادهم ومساجدهم، وأخذ مراكبهم، ووطئ المصاحف والكتب بأرجلهم، وإحراقها بالنار، وهتك حرمات المساجد، وتحريضهم على قبول الردة والسجود لصليبهم، وعرض الأموال لهم على ذلك، وتزيين نسوانهم بالحلي والثياب النفيسة لتفتين نسوان المسلمين، وقتل الحجاج وسائر المسلمين بأنواع العذاب، وسبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً، وأسرهم وتقييد أسراهم بالقيود الثقيلة، والتردد بهم في السوق لبيعهم كما يباع العبيد، وتعذيبهم حينئذ بأنواع العذاب لزيادة العوض، وجمعهم في بيت مظلم منتن مخطر، وضربهم بالنعل إذا استنجوا بالماء، وتعذيبهم بالنار..). وهذا الكتاب يتضمن في طياته عبارات تحرض المسلمين على الجهاد ضد الاستعمار البرتغالي لتخليص أهل ملابار من هذا المأزق العظيم الذي وقعوا فيه.
فلبى دعوته الألوف المؤلفة من أبناء ملابار، وخاطروا بأرواحهم لتحرير وطنهم من قبضة المحتلين. وكافح المسلمون والهندوسيون في هذه المعركة كتفاً لكتف حتى أقضوا على المستعمرين المضاجع وأسهروا منامهم. وكان من طليعة هذا الجيش بطل يسمى كنج علي مركار الذي ذاع صيته ربوع جنوب الهند لبراعته في حرب البحر وشجاعته أمام العدو. لقد أصبح كابوساً للبرتغاليين حيث شن حرباً ضدهم من شتى الأطراف، فلم يتمكنوا من دفع هذا الهجوم حتى فقدوا زمام الحرب. ولكن بعد فترة، قاموا بإغارة ثانية مثل مجازر الأرواح ونهب الأموال وحرق البيوت وغيرها. وفي عام 1539م نال كنج علي مركار الشهادة، كما هزم الشعب في المعركة ووقعوا تحت اضطهاد البرتغاليين لفترة طويلة. وصف المؤرخون البرتغاليون هذه المعركة بالحرب الصليبية الثامنة. لقد خلد التاريخ في صفحاته أسماء هؤلاء الأبطال بحروف ذهبية لا تمحى آثارها ولا تبلى جدتها.
ثورة ارتعدت لها فرائص البريطانيين
تعد معركة مالابار أقوى مقاومة ضد البريطانيين في الهند بعد حركة الاستقلال الهندية الأولى عام 1747م. وجذور هذه الانتفاضة تمتد إلى انهيار الدولة العثمانية التي كانت رمزاً للخلافة الإسلامية في ربوع العالم آنذاك. لقد كان البريطانيون قطعوا وعداً لزعماء المسلمين في الهند لانضمامهم في الحرب العالمية بأنهم لن يطيحوا بسلطان الدولة العثمانية من الحكم ولن يشكلوا خطراً على المسلمين، ولكنهم في نهاية المطاف، نبذوا الوعد وراء ظهورهم ومزقوا الدولة العثمانية كل ممزق، فلم يبق المسلمون في الهند مكتوفي الأيادي بل تحركوا ضد البريطانيين ووقفوا وقفة رجل واحد حتى سمي هذا النضال بحركة الخلافة. وهذه الحركة بدورها فتحت على مصراعيها ثورة شعبية في مالابار.
وكان معظم المسلمين الذين يقطنون أرض مالابار فلاحين كادحين يبذلون قصارى جهودهم ليل نهار في الحقول ليجني ثمارها الإقطاعيون الهندوسيون إلى جانب أنهم لم يجدوا من عرق جبينهم وكد يمينهم ما يسد جوعهم ويروي عطشهم. وهذه العملية أدت إلى صراعات متتالية بين الفلاحين وملاك الأراضي إلا أن الإقطاعيين قمعوها بسلطتهم الكبرى.
عندما استولى البريطانيون على منطقة ملابار بعد أن كانت تحت حكم السلطان ديبو (Tipu sultan)، دعموا الإقطاعيين المحليين بزيادة الضرائب على الفلاحين المسلمين أضعافاً مضاعفة، فمن لم يقدر على دفع هذه الضريبة المفروضة كان من المكتوب عليه أن يعيش الذل والهوان، وشنوا اعتداءات شنيعة على أبناء كيرالا عامة وعلى المسلمين خاصة لأنهم قد انضموا في المناضلة ضد الاستعمار وأصبحوا خطراً كبيراً، داسوا كرامة المسلمين وأذاقوهم كل أنواع العذاب. وكل هذه المكونات أشعلت فتيل الحرب وحركت رحى المعركة ضد الاحتلال العنيف ونظام الطبقة الفظيع.
في عام 1920 زار القائد الهندي مهاتما غاندي منطقة ملابار مع زعيم حركة الخلافة مولانا شوكة علي وأعلن دعمهم الثابت للمسلمين في حربهم ضد الاستعمار والإقطاع وطلب من الهندوسيين أن يقدموا المساعدة لهم. فخاض الشعب المعركة حاملين لواء الوطنية وصارخين هتافات الحرية. كان علي مسليار، ووارين كونات الحاج كنج أحمد ممن أخذوا بناصية الأمر ونفخوا كير الجهاد. وكان علي مسليار عالماً نحريراً وقائداً عظيماً كرس حياته للتعلم والتعليم والدعوة الإسلامية، فحرض المسلمين على الحرب ضد براثن الاستعمار حتى اعتقلته الشرطة البريطانية وزجوه في غياهب السجن.
عندما تلقى وارين كونات كنج أحمد حاج نبأ اعتقال علي مسليار شد مئزره لمواجهة البريطانيين وخاض معركة مريرة ضدهم وحرك مجداف الحرب مع جيش كبير، فانتشرت الثورة كالنار في الهشيم حتى استولت على معظم مؤسسات الحكومة مثل محطات القطار ومكاتب البريد، ومراكز الشرطة وغيرها. فولى البريطانيون من أرض الملابار مدبرين فارين بحياتهم.
أسس أبناء ملابار دولة جديدة خاصة لهم باسم (ملايالا راجيم) (الدولة المليبارية) برئاسة كنج أحمد حاج وعلي مسليار. وحكموها ستة أشهر تحدياً للإمبراطورية التي لا تغرب عليها الشمس أبداً. وكان للدولة دستور خاص وجواز سفر خاص بها، لم يتجرأ أي جندي بريطاني أن يخطو خطوة نحو هذه الأرض. فعاش القوم فيها ميسوري الحال ومطمئني البال.
ولكن لم يدم في تلك الدولة الصغيرة الأمن والسلام حتى هاجمهم جيش البريطانيين وقاموا بارتكاب مجازر بشعة على المواطنين المسلمين، ارتقى فيها أكثر من 10000 مسلم وسقط الكثيرون جرحى. ونفي عشرون ألفاً من المواطنين إلى جزر أندامان ونيكوبار. زج الجيش بخمسة آلاف من المواطنين وراء القضبان وأذاقوهم العلقم في بقية حياتهم. وقد أرادوا إعدام علي مسليار بالمشنقة ولكن الله قدر أن يتوفاه في سجدته الأخيرة في صلاته التي قام بها في السجن قبل الإعدام.
يظل مشهد استشهاد كنج أحمد حاج أيضاً محفوراً في سويداء قلوب المسلمين يبعث فيهم الشجاعة والقوة لأنه صمد في وجه الموت، وقال للعسكريين كآخر أمنيته: (كنت سمعت عنكم أن من عادتكم أن تطلقوا الرصاص من وراء الظهر. لكني أفضل أن أموت وطلقاتكم تصب على صدري). فأطلق على صدره الرصاص حتى نال شهادة شجاع لم يركن أمام العدو لمحة بصر. وأحرق جسده حتى لم يبق له رفات يلهم في قلوب الجيل القادم روحاً وهمة للمقاومة والنضال. ولكن آثاره وذكراه لم تنمح بل نقشت حياته في ذاكرة شعبه على مر العصور وكر الأعوام.
رغم الدور الفعال الذي لعبته هذه المعركة في تغيير بوصلة سياسة الهند وتحرير الوطن، حاول بعض المؤرخين المستشرقين تشويه صورتها واتهموها كثورة طائفية. وسموا هذه المعركة باسم (أعمال الشغب في مالابار)، و(تمرد مالابار) وغيرها من الأسماء التضليلية بغض النظر عن دوافعها الحقيقية وبواعثها الأصلية. ولكن الحقيقة واضحة مثل رابعة النهار حيث كانت هذه المعركة انتفاضة ضد الاستعمار البريطاني والاضطهاد الإقطاعي. ستظل تشغل حيزاً كبيراً في ذاكرة أبناء الشعب الهندي وتمثل رموزاً ملهمة للأجيال القادمة.

ذو صلة