مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

اللغة ودماغ الإنسان

تتصف معظم الموجودات الحية وغير الحية ظاهرياً وضمنياً بصفة عدم التناظر. بدءاً من الخلية المتناهية في الصغر، مروراً بالكائنات عديدة الخلايا المعقدة، وانتهاءً بالكواكب والنجوم. وكغيره من عناصر الطبيعة، يعتبر دماغ الإنسان عضواً غير متناظر.
نقول عن عضو ما إنه غير متناظر إذا وجدت اختلافات بنيوية أو وظيفية بين مناطق هذا العضو. وبناء على ذلك، يعتبر الدماغ غير متناظر بشكل نموذجي، فمجرد وجود مركز اللغة في جهة واحدة فقط من الدماغ (وهي الجهة اليسرى غالباً)، وغياب ذلك في الجهة المقابلة، دليل كاف لإثبات عدم تناظره.
قام الطبيب الفرنسي بول بروكا بدراسة عدد كبير من المرضى الذين يعانون من مشكلة عصبية متعلقة باللغة تسمى الحبسة، وقد لاحظ أن المنطقة الدماغية المتأذية لديهم تقع في النصف الأيسر للمخ، وتوصل إلى نتيجة مفادها أن هذه المنطقة على علاقة وثيقة باللغة، ثم كتب جملته الشهيرة: (يبدو أننا نتحدث مع النصف الأيسر للمخ). بعدها بعدة سنوات، استطاع الطبيب الألماني كارل فيرنيك تحديد منطقة أخرى مسؤولة عن الوظيفة اللغوية، وقد لاحظ أن أذيتها تسبب شكلاً آخر من الحبسة، كما أنها تقع إلى الخلف من منطقة بروكا سابقة الذكر، وفي النصف الأيسر أيضاً.
حديثاً، أصبح يطلق على اللاتناظر المذكور أعلاه مصطلح نصف المخ المسيطر، إشارة إلى نصف المخ الحاوي على مركز اللغة، ومنه يكون النصف الآخر هو النصف غير المسيطر.
وهنا لا يمكن أن نغفل علاقة هذا مع ظاهرة ثانية وهي التفضيل اليدوي. ويمكن تعريفه بأنه الميل الفطري لاستخدام يد دون الأخرى، أو القدرة على أداء المهام المختلفة بكفاءة عالية في يد دون الأخرى. ويعتبر هذا التفضيل صفة فريدة وواضحة لدى الإنسان العاقل.
منذ العصور القديمة وحتى اليوم، فضل غالبية البشر استخدام أيديهم اليمنى في أداء مهامهم، كالصيد وطهو الطعام وصولاً إلى الكتابة، بصرف النظر عن المنطقة الجغرافية والثقافة السائدة. في حين لا يشاهد هذا التفضيل لدى الحيوانات والأنواع الأخرى، والتي لوحظ أنها تستخدم كلا الطرفين في مهامها اليومية ولا تفضل طرفاً على آخر. كما أن هذا التفضيل يظهر لدى فرد الإنسان مبكراً جداً، حيث لوحظ بواسطة تقنية الإيكوغرافي أن غالبية أجنة الإنسان العاقل يمصون إبهام اليد اليمنى خلال حياتهم الجنينية.
وبالعودة إلى النصف المسيطر وغير المسيطر، يمكن بسهولة توقع النصف المسيطر لدى كل إنسان من خلال معرفة تفضيله اليدوي، حيث تظهر الدراسات الحديثة أن معظم مستخدمي اليد اليمنى لديهم نصف مخ مسيطر أيسر. وعدد لا بأس به من مستخدمي اليد اليسرى أيضاً لديهم نصف مخ مسيطر أيسر، مما يعني أن معظم البشر، بشكل عام وبصرف النظر عن اليد المسيطرة، لديهم نصف مخ مسيطر أيسر.
يطلق على هؤلاء الناس: الأشخاص ذوو السيطرة اللغوية النموذجية. أما الذين لديهم سيطرة لغوية في النصف الأيمن للمخ أو في كلا النصفين بشكل متساو، فيطلق عليهم: ذوو السيطرة اللغوية غير النموذجية.
اليوم، ومع تسارع الأبحاث العلمية، أصبحت العلاقة بين التفضيل اليدوي والسيطرة اللغوية أكثر تعقيداً. حيث تم تقسيم التفضيل إلى درجات بحسب قوته، كأن نقول عن شخص إنه يستخدم يده اليمنى بشكل قوي، أو يستخدمها بشكل متوسط أو ضعيف. ولهذه القوة علاقة بالمقدرة والسيطرة اللغوية.
كما أن وظيفة اللغة أصبح ينظر لها تحت مسمى وظيفة التواصل، وهذه الكلمة أشمل وأكثر دقة، على اعتبار أن الهدف من وجود اللغة هو التواصل. كما ازدادت معرفتنا بوظائف مناطق الدماغ، وأصبحت وظيفة اللغة لا تقتصر على النصف المسيطر، والذي هو الأيسر في الغالب. بل تم اكتشاف باحات موجودة في كلا نصفي المخ، ولها علاقة باللغة. على سبيل المثال، تقع مراكز اللغة المنطوقة واللغة المفهومة وإدراك الكلمات في النصف المسيطر، أي الأيسر غالباً. في حين توجد مراكز إدراك النغمة الصوتية والإيقاع المرافقين للغة المسموعة، ومراكز إدراك الشخص المتحدث نفسه وتعابيره الوجهية في النصف غير المسيطر، والذي هو الأيمن غالباً.
ويمكن القول إن المراكز الأساسية في وظيفة اللغة تقع في النصف المسيطر، في حين أن المراكز اليمنى تعتبر مكملة للمراكز الأساسية. وقد تطورت جميع هذه المراكز العصبية خلال مئات آلاف السنين بغرض تحقيق أكبر قدر من التواصل الاجتماعي الفعال بين أفراد النوع. وبالتالي أكبر قدرة على التكاثر والبقاء، الغاية البيولوجية من وجود الكائن. ولكن، لماذا اليد اليمنى والمخ الأيسر؟
لا يوجد إجابة دقيقة على هذا السؤال، وضعت الكثير من الفرضيات التي حاولت تفسير ذلك، منها فرضية الحماية، والتي تنص على أن استخدام اليد اليمنى تطور بهدف الحماية من الموت، وذلك خلال الفترة التي استخدم فيها الإنسان السيف والدرع أثناء المعارك، بحيث كان مضطراً أن يغطي الدرع الجانب الأيسر من الجسد، بهدف حماية القلب، وبالتالي أصبح مضطراً أن يستخدم السيف باليد اليمنى. ومع الأجيال المتعاقبة أصبح معظم الناس أكثر مهارة في استخدام اليد اليمنى دون اليسرى. لا تحظى هذه الفرضية بقبول علمي واسع، حيث لا دليل يدعم صحتها كما أنها نظرياً ليست قوية بما فيه الكفاية لأن تفسر استخدام اليد اليمنى. فالقلب لا يوجد في الجهة اليسرى القاصية، بل يقع في منتصف الجسم ويميل إلى الجانب الأيسر قليلاً. بالإضافة إلى أن استخدام السيف والدرع ظهر في فترة زمنية متأخرة نسبة إلى ظهور التفضيل اليدوي لدى جنس البشر بشكل عام.
هناك فرضية أخرى تقول إن التفضيل اليدوي الأيمن ليس إلا نتاجاً ثانوياً للسيطرة اللغوية اليسرى، وهنا نعود لنطرح سؤالاً معاكساً، لماذا السيطرة اللغوية يسرى وليست يمنى؟
تحاول فرضية تأخر تطور النصف الأيسر وضع تفسير مقبول. حيث يكون تطور النصف الأيمن للمخ سابقاً للنصف الأيسر. مما يتيح للنصف الأيمن بالتخصص بالوظائف الغريزية الأساسية التي تضمن البقاء والتي نتشارك بها مع غيرنا من الحيوانات، كالتعرف على الوجوه والتعابير الوجهية وإدراك نغمات الأصوات. في حين أسندت الوظائف الأقل أهمية بالنسبة للبقاء إلى النصف المتأخر في التطور، بمعنى أن اللغة بحسب هذه الفرضية أقل أهمية للبقاء من بقية الوظائف الدماغية.
وبعيداً عن جميع الفرضيات السابقة، يمكن تلخيص كل ما سبق ببضع عبارات: نمتلك نحن، البشر العاقلون، وظيفة متفردة لا تشاهد من بين مئات آلاف الكائنات سوى لدينا، وهي اللغة. الهدف منها تحقيق أفضل شكل من التواصل. ولولا اللغة، أهم سمات العاقل، لما استطعنا دراسة الطبيعة واكتشافها، ولما طرحنا هذه الأسئلة. لعل الطبيعة أرادت أن تعطي أحد عناصرها، وهو الإنسان، صفة جديدة، لكي يكتشف أشياء جديدة. ولكي يستطيع أن ينقل اكتشافاته وأفكاره شفهياً في البداية، ومن ثم كتابياً.

ذو صلة