مجلة شهرية - العدد (577)  | أكتوبر 2024 م- ربيع الثاني 1446 هـ

المكان ناظراً لك ومنظوراً له

تخيّل أنك في مكان ما، فوق محوره تماماً، تنظر منه بدهشة إلى فراغ يلف حولك. ثم تنعكس الصورة، لترى ذاتك كثقب أسود تنشدُّ الأشياء طواعيّة لفلكه.
حدث ذلك معي على نحو غير متوقع خلال رحلتي الأخيرة، والتي امتدت على مدى أسبوعين بين ثلاث مدن إيطالية فاتنة، غالباً ما تحوم جل تجارب قاصديها حول دهشتهم البصرية ولذة أطباقها وشموخ تاريخها. في البدء، لا أنكر مدى افتتاني بتلك المدن أيضاً، بدءاً بروما التي تُحيي الحواس كما لا تفعل نظائرها، فلها طرقها الخاصة في مغازلة مخيّلة زوارها، حيث تنثر ألغاز أبطالها بين ثنايا قطعها الفنية وبقايا آثارها. فلورنسا من ناحية أخرى، تُوقع مرتاديها في الغرام بواجهات بنيان ذوات رخام أبيض مُحمر، مُستدرجة بذلك فرائسها لزيارة فراغاتها الداخلية. وفور دخولهم، ستلحق أعينهم نقوش أرضياتها، متسلقة جدرانها، حتى تتعلق بإعجاب على أسقفها. وأخيراً ميلان، مدينة تُفاخر بعصريتها حتى من أعتق مبانيها. مدنٌ تتعانق فيها الفنون، تتزاوج، تُنجب خدجاً، لا تشيخ ولا تموت.
إلا إنه وبعد أيام من التجوال وسط الأعراس الثقافية تلك، وجدت داخلي يتوق للغرق في العاديّة بدلاً من التأرجح بدهشة بين المباني ودخولها. نقطة في المنتصف احتجتها للتخلي عن الزوائد ونواقصها. نقطة أغمض فيها عيني فلا أرى نقوشاً تتراقص، ولا أوجه سيّاح تتداخل، بل فراغاً تملؤه السكينة. ولحسن حظي، فقد ساعدني ابتعاد القرية التي سكنت فيها قرابة نهاية الرحلة في الحد من اتساع رقعة تحركاتي، فكان المطعم الصغير والوحيد خياري الإجباري السعيد للأكل كل ليلة.
لا زلت أذكر شعور زيارتي الأولى له، تردد خطواتي أمام واجهته البسيطة، والتحقق أكثر من مرة بأنه المكان ذاته الذي يشير له هاتفي. ممر المدخل الطويل والخالي من العلامات بنهاية غير واضحة الملامح، وأدوات الزراعة المرمية بإهمال على أحد جدرانه، وعشوائية المواد المستخدمة في أرضيته، كلها معاً اجتمعت لتبطّئ خطواتي وتقاربها حفاظاً على خصوصية أهله. كل ما فيه كان يصرخ على أنه بيت حميميّ، فكيف لي أن أقتحمه؟ مع ذلك، كل شيء كان يقول لي أيضاً استمري، فهذا هو المكان (العاديّ) الذي تبحثين عنه.
ينتهي الممر ليأخذك لحديقة خلفية تطل على جرف أخضر. ورغم رحابة المكان، إلا أن الشعور الذي أوحاه لي المدخل لم يكن خاطئاً، فالمطعم الجديد ذو الحديقة المنزوية والغرفة الوحيدة يشغل النصف الأخير من بيت طاه إيطالي وزوجته الألمانية. أثث الزوجان مطعمهما من محلات الأثاث المستخدم، ووزعا الطاولات والكراسي المتنوعة كما اتفق. توسطت أغلب طاولاته مشرفاً مظللاً بالورود والأعشاب العطرية. انتظرت خدمتي دون تململ وأنا أدقق في بساطة تصميم المكان، حباله الممتدة بلا نمطية بين الأشجار، شموع داخل علب صلصة زجاجية، وشقوق الخشب الواضحة على الكراسي. جمال عشوائي تجلى لي من الزاوية التي اتخذتها مكاناً لي ليلتها.
وكمعمارية تعشق دقة التصميم وتقدرها، أدركت يومها كلمات آلان دو بوتون في كتابه (عمارة السعادة)، عندما قال بتصرف: (تحكي لنا العمارة صوراً متعددة من السعادة، عندما نستمع لما تقوله عن ساكنيها، فهي أفضل ما يعكس نمط حياتهم اليومية، ولذا فعندما نقول عن العمارة بأنها جميلة، فهذا لأنها تعكس نمط الحياة المفضل لنا، وليس الشكل الجمالي الذي نُقدر بالضرورة). قادتني رغبتي الشديدة بالبساطة يومها لأن أرتبط مع العمارة على نحو عميق، ولأن أتعدى مستوى الجمال الماديّ حتى أصل لمستويات أخرى تربطني بأصحاب المكان. قد لا يكون هذا نمط الحياة المفضل لي، لكنه على الأكيد كان الأحب لي يومها.
انتهيت من عشائي مع تحول لون السماء استعداداً لوداع شمسها. تحول تركيزي لينصب على جمال الطبيعة، فزاويتي كانت مرصداً سمح لي بتأمل بدايات تغير تضاريسها وصولاً لعمق الجرف الأخضر. ذلك العمق زاد المنظر سحراً كونه أبقى على عذرية الطبيعة كما تحب، تداخلت درجات خضرتها وتبعثرت ارتفاعاتها. كانت (شيئاً لا حد له ولا نهاية) - كما يصفها جبران خليل جبران.
وفي لحظة إدراكي تلك، اختفى كل ما حولي حقاً، وأصبح بلا نهاية! كُتمت الأصوات، تلاشت الأجسام، انتهى الوقت، ثم اختفيت أنا! أصبحت عيناً واحدة تشهد بتيقظ أصغر التحركات من كل الاتجاهات. عيناً ثابتة بينما يتسع نطاق رؤيتها ببطء شاملاً كل ما حولها من الطبيعة. عيناً تلحظ في نفس الوقت تنقل الحيوانات بين أشجارها، ورقص رياحها مع الورق، وخمار بلون البرتقال أخذ يلف سماءها.
بعدها ببرهة، بدأت أشعر بنظرات المكان لي، وأن أراني وأنا أرى. احتضنتني نظرته، ثم فتحت لي ستاراً آخر من جمال عبثي. كنا ننظر معاً للخارج، ثم نبتعد لأراني نقطة وسط المكان الممتد. أنظر من المكان وعبره. أغرق باستسلام وبتجمد جسدي، ولولا طرقات خفيفة على طاولتي لبقيت أغرق حتى هذه اللحظة.
طلبت الحساب، وانتبهت وأنا أغادر المكان لغصن يعانق عموداً كان خلفي. لا أعلم ما إن كان ذلك العناق هدية من المكان على تجاوزي لنظرة المعماريّ المدربة على تفحص تفاصيله، ولأني سمحت في لحظة لتجربة تنقلني لبعد متعدد النظرات، مدرك للمكان بتوسعه، ناظراً من خلاله؟ أم أنه كان إشارة على مساحة الدهشة التي قد تفوتني بكل بساطة مهما زادت حدة تركيزي واتسعت؟ سيبقى هذا السؤال ما بقي ذلك الغصن.

ذو صلة