مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

المجلة العربية.. هكذا بلغت سقف المعرفة

تفتّحت عيني في مطلع السبعينات على مكتبة والدي التي ورثها عن جدّي، وبها كتُبٌ عالية القيمة من التراث، كالمستطرف في كلّ فنّ مستظرف للإبشيهي، والعقد الفريد لابن عبد ربّه، والأمالي لأبي عليّ القالي، وألف ليلة وليلة.. كنتُ على صِغر سنّي أتهجّى ما أقرأ، ذلك أنّني كنتُ أجدُ في المجالس الأدبية التي كان يقيمها والدي كلّ أمسية جمعة ما يرفعُ منسوب الدّهشة لديّ، حين أسمع الحاضرين يتطارحون في مسائل لا أفهمها، لكنّني أشعر أنّ لها وزناً في حياة النّاس، وصرتُ أعرف طه حسين والرافعي والرصافي والعقاد ومالك بن نبي.. وغيرهم. وصارت تتملّكُني رغبةٌ في اكتشاف المزيد، لتنشأ علاقةٌ بيني وبين الكلمة والجملة والكتاب والمكتبة. لكنّ الشيء الذي شكّل قيمة مضافة في تكويني الثقافي هو المجلات العربيّة التي كانت تصلُ المكتبة الوحيدة في مدينة سطيف، إذ لا ينالها إلّا من كان على صلةٍ مع ابن صاحب المكتبة.
كانت تصلُنا مجلاّت من مصر والعراق والشّام وتونس والمهجر.. فكُنّا نتبادلها بيننا نحن المحرومين من المعرفة، وكأنّها سلعةٌ مُحرّمة. فالمجلّة الواحدة تدخل عشرات البيوت حتّى تُتلف صفحاتُها، فقد كان ذلك هو السبيل الوحيد لتحصيل معرفةٍ مجهولة، في الأدب والعلوم والتّاريخ واللغة والتسليّة. كانت المجلّة الواحدة تمنحُنا كمّاً هائلاً من المعلومات، حتّى أنّها تشبهُ شبكة إنترنت من ورق.
اكتشفتُ المجلّة العربيّة، وهي واحدة من أهمّ مصادر المعرفة الثقافيّة والأدبية في الوطن العربي، إذ إنّها وُلدت كبيرة، ولم تنتظر أن يتشكّل حولها جمهورٌ من القراء، إذ إنّ منشئيها أدركوا منذ البدء أن يوفّروا لها البيئة التي تسمح بانتشارها، وتحوّلها إلى رافدٍ من روافد الثقافة العربيّة مشرقاً ومغرباً وعلى امتداد الخليج.
عندما فتحتُ عيني على المجلّة العربيّة، كان عمري إذّاك 19 عاماً، وتساءلتُ ببراءة، كيف لهذه المجلّة أن تنشأ في بيئةٍ يُشاعُ عنها أنّها لا تهتمُّ وتُشجّع سوى ما اتّصل بالدين والعقيدة، بينما هذه المجلة فلتةٌ في كلّ مناحي المعرفة والتثقيف الأدبي واللغوي، الذي تُشكّلهُ نخبةٌ من الكُتّاب المُكرّسين في الوطن العربي، من أكاديميين وأدباء وباحثين في عديد المجالات من التراث حتّى أدب الطّفل.
لقد سبقت المجلّة العربية عديد العناوين التي نشأت في الثلاثينات وما بعدها، واستمرّت تصدُرُ في شكل مقاومةٍ للموت الذي طالَ عدداً من الدوريات والمجلات المتخصصة، ذلك أنّ الثقافة في بعض البلدان العربيّة تدفع فاتورة أيّ تحوّل اقتصادي أو إعادة هيكلة مالية، فهي إن لم تكن عجلةً خامسة في مركبة التنميّة، فإنها بمثابة الطفل اليتيم على مائدة لا يجرُؤ على مدّ يده.
قليلةٌ هي المجلات التي قاومت أعاصير النكران المستمرّ لموقع الثقافة والأدب والإبداع في المجتمع، وبخاصّة تلك التي ارتبطت بوجدان القراء الذين كبرُوا معها، ونشأت بين الطرفين علاقات لا تؤثّرُ فيها أزمة ولا دوسُ جزمة.
ولعلّ النموذج الذي شكّل استثناء في منظومة المجلات العربيّة، هي المجلّة العربيّة، لم تكتفِ فقط بإصدار عدد كلّ شهر، حفاظًا على الحدّ الأدنى، ولكنّها كانت تتطوّر بصورة مذهلة، إذ إنّها منحت قراءها فضاءات أوسع، من خلال الإصدارات الملحقة بها، من كتب ونشريات نوعيّة وترجمات، وحضور لافت في مختلف الفعاليات. مما جعلها مركز استقطاب ثقافي بامتياز، وتحوّلها إلى مرجع ثقافيّ تستفيد منه الجامعات ومختبرات البحث في التراث وشتّى الفنون.
لقد مكّنت المجلة العربيّة عدداً كبيراً من الكتاب والدارسين العرب من مساحات واسعة لنشر بحوثهم وكتاباتهم، فحدث تقاطع مُهمٌّ أمكن من خلاله إنشاء شبكة عربيّة حقيقيّة، ليس للتعارف بين عشرات الأسماء، إن لم أقل المئات، ولكن للتأسيس لأرضية معرفيّة عربيّة من المحيط إلى المحيط، الأمر الذي أوصل المجلّة إلى سقف اللاّرجوع، بل ألزمها ذلك بابتكار أفكار جديدة، تجعل منها المجلّة التي لا يُمكن الاستغناءُ عنها، بل زاد ذلك في تمتين الصلة بالمجلّة، وتوسيع انتشارها حتّى في ظلّ المنافسة الرقميّة التي كانت سبباً في موت عشرات العناوين، أو تحوّلها إلى منصات رقميّة، لا يُمكن لمن نشؤوا على الورق أن يُغيّروا طباعهم من الاجتياح الرقمي العظيم والتكنولوجيا الجارفة، ورأس حربتها الذكاء الاصطناعي.
لكلّ هذا، فإنّ المجلّة العربيّة، وهي تُحيي يُوبيلها الذهبي، احتفاء بمرور خمسين عاماً على ميلادها؛ فإنّ التبريك لا يطالُ صمُودها، ولا تطوّرها، ولا التمكين الذي نجحت في فرضه رغم التحوّلات المعرفيّة التي يشهدها العالم؛ ولكن لا بُدّ من تثمين ثباتها على خدمة العربيّة وتوسيع مجالات النشر فيها، وعدم تأثّرها الكبير برياح التكنولوجيا الرقميّة التي أحالت عناوين عريقة على المعاش.
لقد وجبَ الاعتراف للمجلة العربيّة بقدرتها على صناعة وعي ثقافي أسهمت فيه نخبٌ عربيّة مختلفة المشارب والرؤى والاجتهادات، ووجب أيضاً منحها وسام خدمة المجتمع الثقافي العربي في زمن تضاعف المعارف وتنوّع الآداب وتنازع الحضارات.
كل الامتنان للمجلّة العربيّة هذا العنوان الثقافي والأدبي الكبير الذي كبُرنا معه، وكبر في قلوبنا، لأنّه كان يمنحُنا المعلومة والفكرة التي كُنا في أيّامنا نطاردها، بعدما صارت اليوم تُطاردنا، فلا نعرف أيّ معلومة أصحّ، ولأيّ بيئة تصلُح. ومزيداً من التألق والنجاح للفريق القائم عليها، مع كل العرفان للآباء المؤسسين منذ العام 1975، حين كانت الحربُ الباردة تنفخ في كلّ الاتجاهات، وكُنّا نحنُ أبناء السلالة العربيّة ننتظرُ المجلّة العربيّة كي تمنحنا مفاتيح فهم هذا النّص، أو إعادة قراءة هذا الموروث المجهول، أو تسليط الضوء على قضايا مُبهمة، في اللغة والتاريخ والأدب.


* كاتب جزائري، ووزير سابق للثقافة

ذو صلة