مجلة شهرية - العدد (580)  | يناير 2025 م- رجب 1446 هـ

العيد الذهبي لـ(المجلة العربية)

ليس أسعد من الكاتب عندما تمر عليه مناسبة الاحتفال بالعيد الذهبي لمطبوعة ثقافية، وها نحن نحتفل بالمجلة العربية، التي تصدر في المملكة العربية السعودية في عيدها الخمسين، فتحية لهذه المطبوعة وتحية لما حملته من فكر نير طوال تلك الفترة الطويلة والصعبة في حياتنا الفكرية. ليس بالقليل نصف قرن من الزمان، وبخاصة زماننا هذا الذي تتغير فيه الأمور بشكل سريع بل خاطف، خصوصاً في مجال المعرفة ووسائلها المتغيرة.
لقد قدمت هذه المجلة الاستنارة في ظل موجات من التعصب الذي مر علينا، وبفضل رؤية الأمير محمد بن سلمان ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، شاهدنا انحسار تلك الموجة المتشددة، وظهر الإبداع السعودي في أصفى معانيه، ومع هذه الفترة الجديدة، فإن دور المجلة يتعاظم، ولكن لا بد من ذكر فضل من مر على إدارتها في السابق، فقد كانت الاستنارة هي بوصلة العمل لديهم وسلموا تلك البوصلة إلى جيل جديد، رغم ما عانوه من عنت.
في وقتنا الحاضر يشتد النقاش فيما إذا كانت الوسيلة المطبوعة هي الأفضل لتوصيل الفكرة وطرح القضايا وحمل مشعل الثقافة، أم أن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وبخاصة المشاهدة هي الأكثر تأثيراً، هذا النقاش بقي لدينا كثيراً، ومازال مستمراً.
أما الاجتهاد الذي أتبناه، فإن المطبوع مازال مهماً، إذا كان من يشرف عليه يعرف أهمية (المحتوى) فالمحتوى الذي يطلبه قارئ اليوم هو الأصل، كما نشاهد في تراجع بعض المطبوعات وتقدم غيرها، سواء في ثقافتا العربية أو الثقافات الأخرى، سبب التقدم والتراجع هو المحتوى المقدم، ولا يمكن تقديم محتوى جيد إلا من خلال سقف حريات الكتابة والتعبير.
إذا نظرنا إلى تاريخ النشر سنجد أن الكتابة ومنها القراءة فكرة عبقرية، استجابت لحاجات ملحة للإنسان، وما القراءة إلا سلاح للمعرفة، فهي ليست فقط مفتاحاً لسوق العمل، بل أداة تنوير يستخدمها الإنسان لتوسيع مداركه. القراءة تؤهلك إلى خلق المتعة في النص، والتواصل الأفضل مع المحيط، وتكوين ثروة لغوية ومعرفية.
هناك حكمة رسخت في ذهني تقول إن (العالم سوف يحكمه من يقرأ) كناية عن العلم لا يأتي إلا بالقراءة الجادة.
القراءة هي المنتجة للنص، فلا مسرحية جيدة دون نص جيد، ولا خطبة سياسية جيدة دون نص جيد، ولا فيلماً سينمائياً جيداً دون نص جيد، الفرق بين نص كاتب وآخر هو متعة النص، وهي تأتي من موهبة مصقولة بالقراءة الجادة.
نتذكر ابن الأحمر الباهلي، وهو شاعر فذ، حضر الجاهلية والإسلام، جاء له صبي يستأذنه في قول الشعر، قال له اذهب واحفظ ألف بيت من الشعر العربي، احفظ يعني اقرأ، وبعدها حصلنا على الحسن بن هانئ، أبو نواس الشاعر المشهور.
في زمن ثورة التواصل الاجتماعي انحسرت القراءة الجادة والمعمقة بسبب فقر المحتوى الذي يقدم. على سبيل المثال، وصلني كتاب مهم من صديق، عملت له ملخصاً على تويتر في خمسة أسطر، بعد أسبوع كتبت عنه مقالاً في حدود (800) صفحة، اطلع على توتير 14 ألف شخص، وقرأ المقال أقل من ألف شخص! تجربة شخصية تظهر كيف انصرف الجمهور إلى الملخصات في هذا العصر، وعلينا من خلال تقديم محتوى له قيمة أن نغرس أهمية القراءة المنهجية الجادة، من خلال محتوى ومن خلال نصوص تكون ذات جاذبية وبها ما يفيد القارئ.
مشكلتنا اليوم هذا الجهاز السحري الذي اسمه الهاتف النقال، اختطف الناس وسطح الثقافة إلى درجة مخيفة، ومن لا يقرأ قراءة جادة ومنهجية فهو في الغالب يحصل على ثقافة سطحية وكثير منها مظلل، لذلك فإننا نغامر في إهمال قرع الجرس لأهمية القراءة، والبدء في المدارس أولاً، فهي الحاضنة الأساس، لذلك يتوجب الحرص على تقديم مناهج للقراءة جاذبة ومفيدة ومسلية، وبعدها الصحافة الثقافية التي يتوجب الحرص فيها على النص السلس المقروء ذي المحتوى الجاذب.. ومبروك لمجلتنا عيدها الخمسين.


* رئيس تحرير سابق لمجلة (العربي) الكويتية

ذو صلة