مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

الطبق والسباتة.. مدخل للفنون الصناعية السودانية

وأنا في طريقي في شارع المطار أحد أكبر شوارع العاصمة الخرطوم وأحدثها عمراناً، ووسط كل ذلك الضجيج والزخم ظهرت لي -سيدة سبعينية- وقد علقت (طُباقتها) (جمع طَبق) ذات الألوان الزاهية على أحد أسوار الطريق، لتُرجعني في ثوانٍ إلى فترات الطفولة الباكرة للقرية في تسعينات القرن الماضي، وامتلاء منزل جدي بأدوات معظمها -إن لم يكن جُلَّها- من سعف النخيل ابتداء من أدوات المطبخ كالريكة وهي إناء منزلي، والطبق وهو مشغول من السعف يستخدم غطاء للأكل، مروراً بالهبابة (مروحة يدوية تُصنع من السعف)، والسباتة (وهي مفارش من السعف يُجلس عليها في المناسبات عند تناول الوجبات كعادة كثير من أهل السودان في الجلوس أرضاً عند الأكل، كما ترتبط السباتة بتقليد سوداني خاص بالأفراح والمناسبات حيث تُفرش السباتات في ساحة الرقص في حفلات الزواج وغيرها من المناسبات)، انتهاء بأكثر منتوجات السعف استخداماً حتى الآن وهي القُفة (سلة من السعف)، التي تُستخدم للتسوق في كثير من الأحيان، وغيرها من أدوات حفظ وتغطية الطعام التي تنتشر في معظم مناطق السودان باختلاف ثقافاته وسحنات شعبه المختلفة.
وتُعد صناعة السعف من الصناعات العريقة في السودان، والمرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالكثير من العادات والتقاليد السودانية، فلا يكاد بيت سوداني يخلو من المنتوجات السعفية التي يتفنن صانعوها في إبرازها بشكل فني جميل، وألوان زاهية جاذبة.
وتعود معرفة البشرية للسعف إلى حضارة وادي الرافدين، حيث ظهر في رسومات المعابد القديمة في حضارات وادي النيل، وظهر النخيل في ممالك النوبة القديمة وحضارات مروى ونبتة والمصورات، واستخدم في عدة استخدامات كالبناء وأدوات المطبخ وصناعة الأثاث المنزلي والسّعفُ لغوياً: هو جريد النخل وورقهُ وهو ورق النخل، والسعف وجمعه سعوف يصنع من ورق شجر النخيل أو نبات الدوم الذي تمتلئ به وديان وصحارى بلاد النيلين بمناخه شبه الصحراوي وشبه الاستوائي، كل ذلك جعل ارتباط الإنسان السوداني بالسعف علاقة أبعد من علاقة صانع ومصنوع فمعظم التقاليد والمورثات لها علاقة بالسعف، فالمنازل تُزين بجريد النخيل ويوضع في مكان جلوس العريس وعروسته كناية على طلب العيش الرغد مستقبلاً، ويجب علي العريس -في الثقافة القديمة- وعلى حسب التقاليد الذهاب قبل حفل الزواج إلى النيل وقطع بعض جرائد النخيل تبركاً منها ومن النيل الذي يغذي البلاد طولاً وعرضاً حيث تغني الفتيات في الأغاني الشعبية (عريسنا ورد البحر وقطع جرائد النخل) ولا يعتبر الزواج مكتملاً إلا بهذه العادة التي تعود إلى ممالك النوبة القديمة التي لا يزال معظم السودانيين مؤمنين بكثير من عاداتها وتقاليدها.
جدتي لأبي كانت تصنع أدوات السعف كهواية تسلي بها عن يومها المنزلي حيث تحضر صديقاتها مجموعة من أوراق نبات الدوم وتبدأ عملية صبغ الجرائد بألوان مستخلصة من عدة مصادر تتباين بين الأخضر والأزرق وتبدأ عمليات الحياكة بالإبرة الحديدية التي تساعد في شد وتجميع سعف النخيل بأشكال تراتبية منتظمة بين التربيع والتثليث، ورغم أن ذلك يستغرق زمناً ليس بقليل ولكنهم يعتبرن أن جمال مصنوع السعف هو في ألوانه الزاهية وترتيبه المتناسق فقلّ أن يوجد مصنوع من السعف خالٍ من اللمسات الفنية والألوان البراقة التي تختار بعناية فائقة من ربات المنازل وتجار المصنوعات السعفية في قرى البلاد طولها وعرضها، ورغم أن السعف هو صناعة أوجبها الاحتياج إلى أنها كانت تعتبر فناً من الفنون الشعبية تتنافس النسوة فيه على إبداء الإحساس الفني الصناعي لديهن.
واليوم في المدن الكبيرة في السودان ووسط التمدن الذي طال كل أشكال الحياة في البيت السوداني، وظهور أواني البلاستيك والأدوات الكهربائية، واقتصار صناعة وبيع المنتوجات السعفية على تجار مختصين في المجال، لا يزال البيت السوداني يزدهي بأشكال مختلفة من منتوجات السعف كشكل من أشكال الزينة والتذكير بالتراث، ولم تعد صناعة السعف مقتصرة على ربات البيوت أو الهواة كما في الماضي، بل تعدته إلى معاهد الفنون الجميلة، والمصانع المتخصصة في إنتاج هذه المصنوعات التقليدية التي يشكل ذوق الفنان وموهبته الدور الأكبر في صناعتها وإخراجها بشكل فني جميل.
واليوم يجد السعف ومنتوجاته إقبالاً كبيراً من السياح الأجانب والزوار العرب في العاصمة الخرطوم، وتزخر به محلات الأنتيكات  التراثية في ساحة أتني، وسوق أمدرمان، وتسجل منتوجاته نسبة شراء عالية من الأجانب والعرب والسودانيين على حد سواء، وصار يظهر كصناعة جمالية مربحة للصانعين والباعة كمنتوج سوداني أصيل يجد قبولاً في عصر العولمة.

ذو صلة