مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

نسوة في الأدب ضحايا لحياة بلا ملامح

يتوتَّرُ الأدب وهو يقتربُ من فصله المأساوي لسيرة مصير المرأة التي تسيطر على مفاصله، ونشعر أن الكاتبَ يحاول أن يدوّنَ اعتراضه لما يحصل لها من بتر وكدمات في ذاتها وجسدها، ولأنَّ الكتابةَ اعتراضٌ ودفاعٌ عن كل الحيوات المعرَّضة للتدمير، وما أعنيه هنا المرأة، فهي مجاز عن الحياة، فقرر الأديب أن يصورهن وهن على مذبح الفداء ليعيد إلى حياة رئتها المفقودة ولو خيالاً. ومن يقرأ نصوص الملاحم الإغريقية والمشرقية سيلاحظ أنها تتخذ من المرأة الضحية شرارة تشعل بها فتيل الملحمة، وتدفع بالحدث نحو الأمام ليصل إلى الحبكة، فأشهر نص ملحمي جسد الميثولوجيا الإغريقية ارتكز على امرأتين (ضحية وخائنة)، وهو الإلياذة لهوميروس، عندما قامت الحرب من أجل امرأة (هيلين)، واستعادتها التي لم تتم إلا عبر تقديم امرأة أخرى إلى مذبح الفداء، وهي (إيفيجينا) ابنة قائد جيش الإغريق (أجاممنون)، ففي لحظات اقتحام طروادة هبت ريح مضادة عاقت تحرك السفن التي تحمل الجيش المهاجم، واستمر هبوبها أياماً طويلة، ممّا جعلهم يلجؤون إلى العراف الذي أفتى بالتضحية بابنة أجاممنون البكر التي رفضت أن تقتل، وقالت وهي راكعة على ركبتيها: (لا تقتلني قبل أن تحين ساعتي، ما أحلى نور الحياة الدنيا، فلا تكرهني على رؤية ظلمات القبر)، فردّ عليها: (هي اليونان التي من أجلها يجب أن أضحّي بكِ، سواء شئتُ أم لم أشأ)، فقالت مستسلمة: (فلتكن حياتي فداء الوطن).
 إنَّ مضمرات النص قاتلة لأنّ طقس التضحية تمّ اختياره وفق قانون المجتمع الذي يقدم النساء قرابين كي تتحقق العدالة غير المتوازنة، فابنة القائد انخرطت في معركة تفضحها الدكتاتورية من جهتين، الأولى: أن الحرب هي استرداد هيلين الخائنة التي هربت مع عشيقها، والأخرى هي إيفيجينا التي واجهت البشر والقوى الخارقة لوحدها وطلبت العدالة التي لم تنلها، فقررت فداء ذاتها لليونان. فتضحية إيفيجينا من أجل هيلين، لكن كلتيهما ضحايا تحالف الطقس واللغة. فالتضحية تجلسُ على عدالة مائلة، حاول الأدب أن يقربها من المجتمع، لكنّه وقع ضحيةً لرواسبها القديمة، فمن هوميروس إلى غوته لم تستفق الضحية من موتها القديم، ففي (فاوست) نرى غوته يعيد صياغة فعل التضحية المكتوب على جبين المرأة، عن طريق شخصية الفتاة الشابة مرغيت حبيبة فاوست، إذ حملت وزر خطيئتهما لوحدها، ففي اللحظات الأخيرة قبل إعدامها يحضر فاوست إلى سجنها فتقول له: (انظر! ها هم قيدوني وغللوني وأسلموني للمقصلة)، هي تشرح مصيرها الذي لم يكن جديداً على مجتمع يُجهض الشمس لتواصل الحياة ظلامها الطويل، ويمنح اللغة صوتي الانتصار والألم، فالنص يمثل انتصار الجلاد على ضحيته التي استسلمت لقدرها في المجاز، فحتّى خيال الكاتب لم يحمها من ذاك القدر، وهذا ما نجده عند تولستوي في روايته (آنا كارنينا) المرأة الأرستقراطية زوجة الكونت التي أحبت الضابط الشاب، وعاشت معه علاقة غير شرعية، فمجتمعها رفضها، لكن لم يرفض الضابط الذي يشترك بالخطيئة نفسها، وتولستوي جعل مصيرها الانتحار، لأنّه ابن نسق ثقافي لم يستطع الفرار منه، لذلك حكم عليها بقتل ذاتها، ويبقى السؤال: لماذا تقدم المرأة للأضحوية من دون الرجال؟ فتولستوي لم يعرض عشيق البطلة لأي كدمات اجتماعية أو نفسية، واهتم بآنا كارنينا التي وضعها في قائمة البطولة العظيمة، فطالما حققت فعل الموت الذي كان الخيار الوحيد لتتصف بالبطولة.
إنَّ الأنوثة في خيال الأدب تحضر بوصفها ضحية، فهي لم تستطع الخروج من شروط الثقافة القائمة على تمجيدها حسياً لتفتح أمامهم صخرة (علي بابا)، وهذا نجده في الشعر العربي الذي كرّس جسدها ومحاسنها لخدمة قصيدته، لا سيما في عصور الشعر الأولى، فالشاعر لم يكن سفيراً بين ذات الأنثى ووجودها، وإنما كان نحاتاً ينحتُ تماثيل لها من مفاتنها لتجمّل النص، ومن يقرأ الشعر العربي القديم يلحظ أنه يخلو من المرأة الضحية، ويجدها في قارورة الغزل المعطرة بنرجس الصورة، ولكن الانعطافة التي حدثت في العصر الحديث عندما توجه الشاعر إلى تصوير ثيابها المعجونة بطحين المعاناة والأسى، كما أنه استعان بالميثولوجيا المشرقية التي لم تختلف عن الإغريقية في تقديم النساء قرابين للحروب والطبيعة، وأسطورة عروس النيل غرسها الشعراء بقصائدهم اعتراضاً لما يحدث للمرأة وأحياناً المدينة والوطن، حسب توظيف الشاعر لها، وعروس النيل عُرفت بالحضارة المصرية عند وقت فيضان النيل يلقون فيه فتاة بكر شابة وبأبهى زينتها، ليتوقف النهر عن الفيضان. إنَّ الشاعر أمل دنقل صورها بلحظة الحاضر ليعبر عن المرأة الضحية الموجودة في كلّ زمان فيقول:
رأيتهم ينحدرون في طريق النهر
لكي يشاهدوا عروسَ النيل عند الموت في جلْوتها الأخيرة
وانخرطوا في الصلوات والبكاء
وجئتُ بعد أن تلاشت الفقاقيعُ، وعادت الزوارقُ الصغيرة
رأيتهم في حلقات البيع والشراء
يقايضون الحزنَ بالشواء
تقول لي الأسماك
تقول لي عيونُها الميَّتة القريرة: إن طعامها الأخير كان لحماً بشرياً
الشاعر تعامل مع عروس النيل وكأنها فعلٌ حاضر، بدلالة الأفعال المضارعة الموظفة، ليشير إلى أن الفتيات أو النساء مازلن ضحايا يُلقى بهن في النهر وتأكلهن الأسماك في كلّ وقت، والنهر في النص ليس النيل وإنما مجاز عن المجتمع وأحكامه التي تفرض على طرف واحد من الحياة المشتركة وهي المرأة. نلاحظ أن ثمة علاقة بين البكر/الموت، فشرط التضحية أن تكون الفتاة بكراً، لتدلل على رمزية الأنوثة الحقيقية التي لا بد من إقصائها. كذلك نجد الشاعر سميح القاسم في قصيدته عروس النيل يعترض على قتلها فيقول:
أحلى صبايا قريتي.. حبيبتي العذراء!
حسناؤنا.. لمن تُزَفّ؟
يا ويلكم، حبيبتي لمن تُزَفّ
لِلطّمْيِ، للطحلب، للأسماك، للصدف؟
نقتلها، نُحْرَمُها، وبعد عام
تنزل فينا من جديدٍ نكبةُ الطوفان
ويومها لن يشفع القربان
يا ويلكم، أحلى صبايا قريتي قربان
ونحن نستطيع أن نبتنيَ السدود
من قبل أن يداهمنا الطوفان!
إن عروس النيل صارت فتاة الحاضر، وحبيبة الشاعر الذي اقترح أن تبنى السدود بدلاً من رميها في النهر، فهكذا يقترحها القاسم للحياة، والشعراء يعترضون على المجتمع الذي صاغ من المرأة عناوين للضحية والقربان، كما أن النساء الضحايا لا يقتصرن عند حدّ الموت، بل من أُصيبت بهوس التجميل وتغيير الملامح هي ضحية، ومن حُرمت من تعليم أو حق مشروع في الحياة فهي ضحية. ولم أنسَ ضحايا الواقع من الأديبات نفسهن كفرجينا ولف، ومي زيّادة وسيلفيا بلاث.. وغيرهن من اللواتي خرجن من قوقعتهن الكلسية وقفزن إلى الشموس وملاعب الرياح وخذلتهن قواهن فتحولن إلى ضحايا.
إنَّ ما يمكن قوله: المرأة الأضحوية متجذرة في الواقع بأشكال وصور متعددة وتسللت إلى الأدب عن طريق اللاوعي الجمعي.

ذو صلة