مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

الساتر الدخاني.. جدار مشروع لإتقان العمل يعين الكاتب على الإبداع والقائد على الظفر

(لا تقلّلوا من تقدير قوة طفاري. إنه يزحف كالفأر ولكن له فكّا أسد). آخر ما تفوه به بالشا، من سيدامو، قبيل دخوله إلى الدير حوالي عام 1927 للميلاد.
1
يفضل الكثير من السرديين، إن لم يكن جميعهم، أولئك عشاق القص والروي، والنصوص المفتوحة إلى حد ما، وضع مخطط لمشروعاتهم الأدبية قبل البدء بكتابتها، على أساس أن المخطط المسبق يقوم مقام خريطة الطريق، توفر لهم نظرة شمولية إلى العمل، أين يبدأ وأين ينتهي، وتعينهم على إتقانه وضبطه، حتى يصلوا به إلى شكله النهائي.. إلى خاتمته. غالباً ما يلجأ إلى هذه الطريقة -وضع مخطط- أصحاب التجارب السردية، ممن راكموا الكثير، نجاحاً وإخفاقاً، في القص والروي، وفي الكتابة عموماً، ومن الحالتين استخلصوا عبرة تفيدهم فنياً، فالخبرة دائماً ما يكون التراكم مصدرها، ولا تتأتى من غيره من المصادر.
إن وضع مخطط مسبق للعمل، قبل البدء به، يفيد الكاتب في أكثر من ناحية، بل يكاد يضمن له طريقاً سلساً وآمناً من المفاجآت والمخاطر. فالكتابة، والسردية منها على وجه الخصوص، لا يؤتمن جانبها، ويشملها المثل القائل: يؤتى الخطر من مأمنه. فلا يأمن الكاتب أن تجرفه الكتابة إلى مرامات وأمكنة ومستويات من الكلام، لم يفكر بها حينما شمر للعمل، فللكتابة سطوة، بمقدورها أن تبدل السبيل بآخر غيره، يكون مختلفاً، ويقودك بالتالي إلى مآلات جديدة، ما كنت ترضاها لو علمت بها مسبقاً.
من تلك الخطط أن الكاتب قد يتعمّد إيهام القارئ بأنه يسير في اتجاه محدد وواضح لا لبس فيه، بينما هو يخطط في قرارة نفسه على أن يسير في الخفاء باتجاه آخر مغاير، ويحرص على أن يكون هذا الاتجاه محجوباً، لا يراه سواه، وفي الوقت ذاته، يجهله القارئ. أو، إنه يريد التحدث في أمر، ويغلو في وصفه وتفاصيله، بينما هو يحضّر، خلف الستار، لأمر يختلف كليةً عمّا أبداه وأعلنه جهاراً أمام القراء من الملأ، كونه لا يريد للقارئ أن يعلم به، أو يقدر حتى على التنبؤ به، أقلهُ، في مرحلة محددة من مراحل المشروع.
واتفق على إطلاق تسمية (السواتر الدخانية) على هذه العملية، التمويهية أو التضليلية، فهي تحجب خلفها حقيقة الغاية التي ينوي الكاتب الوصول إليها. إن أسلوباً كهذا هو مشروع فنياً، كما هو معلوم، وقد جرى استعماله في أمهات الأعمال الأدبية، شرقاً وغرباً.
إن الساتر الدخاني، لا يقتصر استعماله على الكتّاب فقط، في الأعمال الأدبية، السردية منها تحديداً؛ بل يتعداهم إلى القادة الميدانيين، فالساتر الدخاني إن وضع في مكانه المناسب، أصبح سلاحاً ذا قوة عظيمة للاثنين معاً، فكم مكّن كتاباً من جذب قرائهم إلى أعمالهم، واستقطب لهم عدداً أكبر، ومكّن قادة كبار من تحطيم أعدائهم تحطيماً كلياً من دون إطلاق رصاصة واحدة. هو درجة من سلم المكر المشروع، فقد قيل بأنه من كانت لديه حيلة فليحتال، في أي أمر مشروع كان. إن لدى الكاتب في كتابته، كما القائد في معركته، نية محجبة عمداً، عن القراء وعن الأعداء، فلا الكاتب يريد لقارئه أن يتعرّف على نهاية عمله من الصفحات الأولى، ولا القائد يريد لأعدائه أن يكتشفوا خطته لاقتحام القلعة، قبل التنفيذ الفعلي للعملية، فإن استطاع هنا، أي منهما الحصول على نصر قبل المعركة، عبر الساتر الدخاني، فتلك غنيمة نوعية متميزة.
ومن باب المقاربة هنا أو لمزيد من الفهم، فإنه علينا تذكّر مقطوعة (جلد الخروف)، التي وردت في مخطوط قديم، وهي أشبه بالأرجوزة منها بالقول المأثور أو الحكمة. تقول كلماتها: (الخروف لا يسطو أبداً، الخروف لا يخدع أبداً، والخروف أبكم ومطيع بشكل رائع، والثعلب إذا وضع جلد خروف على ظهره، فإنه يستطيع أن يعبر إلى داخل قنّ الدجاج تماماً). والمراد، هو أن تبعد الانتباه عن نواياك، عن أهدافك، بعرض خارجي عادي ولطيف ومألوف، ما أمكن، لتكون بذلك القدر من التضليل الشديد، قد أحكمت بناء ساترك الدخاني، الذي سيحجب ما تقوم به خلفه من عمل، متمماً ومتقناً، وذلك قبل أن تفاجئ الناس به عند تنفيذه.
وتذكر، بأن عدم إمكانية قراءة الناس لك، كثيراً ما يكون هو الذي يجذبهم إليك، ويجعلك ذا قوة وتأثير. لكن ترى، هل من قصص أو أمثله، وقعت من قبل، يعين مغزاها على بناء السواتر الدخانية، لإبعاد الناس عن النية المضمرة والهدف الحقيقي؟ نعم. فالتاريخ، قديمه وحديثه، مليء بالمنجزات التي أسهمت في نجاحها السواتر الدخانية مدار المقال.
2
لعل إحدى أوضح الصور المثيرة، في التاريخ المعاصر، لعملية استخدام الساتر الدخاني، إخفاءً للنوايا، وقد تمت بنجاح، هي تلك التي شهدت فصولها الحبشة - أثيوبيا، نوردها هنا ليفيد منها المهتمون في الأدب، وفي السياسة كذلك، كما يمكن استخدامها في غير جانب من جوانب الحياة.
ملخص القصة، أنه بين عشرينات وثلاثينات القرن الماضي: (بدأ قادة الحرب الأهلية الأقوياء في الحبشة، يدركون أن شاباً نبيلاً يدعى هيلا سيلاسي، المعروف باسم طفاري، أخذ يلفت الانتباه بتغلبه عليهم جميعاً، بحيث اقترب من نقطة قد يستطيع عندها تنصيب نفسه زعيماً عليهم، ويوحّد البلاد لأول مرة منذ عشرات السنين.
معظم منافسيه لم تسعفهم فراستهم، لمعرفة كيف استطاع هذا الرجل النحيل، الهادئ، دمث السلوك، فرض سيطرته؟ فقد استطاع سيلاسي في العام 1927 دعوة زعماء الحرب الأهلية، واحداً بعد الآخر، إلى العاصمة أديس أبابا، ليعلنوا ولاءهم ويعترفوا به قائداً). فسارع بعضهم، وتردد بعض آخر. لكن واحداً منهم تجرأ على تحدّي أمر سيلاسي ورفض الحضور، كان اسمه بالشا (ديجازماك بالشا)، من سيدامو.
كان بالشا رجلاً عاصفاً صاخباً، ومحارباً عظيماً، يعتبر القائد الجديد - هيلا سيلاسي - ضعيفاً غير جدير بالزعامة. فتعمد التخلّف متمترساً بجنوده. لكن سيلاسي أصدر، بطريقته اللطيفة والصارمة معاً، أمراً إلى بالشا بالحضور. فقرر بالشا -المتمرد- أن يطيع، لكن بطريقة يقلب فيها الوضع رأساً على عقب، ضد شخص يطالب بعرش الحبشة، فسوف يأتي إلى العاصمة أديس بالسرعة التي يقررها هو، ومعه جيش من 10 آلاف جندي، قوة كافية للدفاع عنه وإلحاق الهزيمة بخصمه.
عسكر بالشا بقوته العسكرية في واد يبعد 3 أميال عن العاصمة، أملاً أن يضطر سيلاسي للمجيء إليه. لكن بدلاً من ذلك، أرسل الأخير إليه رسلاً، يطلب من بالشا حضور حفل مسائي مقاماً على شرفه. لكن بالشا لم يكن أحمق، فقد قرأ التاريخ جيداً، وعلم بأن الملوك الأحباش السابقين استعملوا الحفلات فخاخاً للإيقاع بأعدائهم. لكنه، ولكي يعطي إشارة على تفهمه للموقف، وافق على حضور الحفل لكن بشرط جديد: السماح له باصطحاب حرسه الشخصي، وعددهم (600) من نخبة الجند، بكامل أسلحتهم. فأجابه سيلاسي بالموافقة، بجملة مهذبة تقول بأنه يَشرُف باستضافة هؤلاء المحاربين.
3
في الطريق إلى الحفل، حذر بالشا جنوده من تناول الشراب لئلا يسكروا. أوصاهم باليقظة والاحتراس. وعند وصولهم إلى القصر كان سيلاسي في أفضل مزاج رائق وساحر، فأظهر الاحترام والتبجيل لبالشا، وعامله كأنه بأمس الحاجة إلى موافقته في مسعاه، بل وتعاونه، ولكن بالشا رفض أن يقع تحت تأثير هذا السحر، فحذر سيلاسي، مباشرة، من أنه إذا لم يعد عند حلول الظلام، فإن لدى جيشه أوامر بمداهمة العاصمة. فكان رد فعل سيلاسي أن أظهر، بأن عدم الثقة هذه قد جرحته وآلمته.
على المائدة، عندما حان وقت إنشاد الأغاني التقليدية، على شرف زعماء الحبشة، تعمّد سيلاسي أن يسمح فقط بالأغاني التي تمجد الزعيم الحربي لسيدامو، بالشا نفسه، الذي بدا له، لحظتها، أن سيلاسي خائف، وقد أرعبه هذا المحارب الذي لا يمكن التغلب على فطنته وحضور بديهته. وعندما شعر بالشا بتغيير المرئيات، أو ما هيئ له أنه تغيير، اعتقد في داخله أنه سيكون هو الآخذ بزمام المبادرة في القابل من الأيام.
انتهت الأمسية، وزحف بالشا بجنوده عائداً إلى معسكره، تشيعه التمنيات وطلقات التحية. ثم نظر فيما وراء كتفه إلى العاصمة أديس، فأعد ذهنياً خطته بعيدة المدى، لزحف جنوده منتصرين إلى قلب العاصمة في غضون أسابيع، ليضع هيلا سيلاسي في مكانه الذي يستحقه: السجن أو القبر. لكنه عندما صار على مرأى من معسكره في الوادي، اكتشف أن شيئاً رهيبا قد وقع، فحيث كانت هنالك خيام ملوّنة تمتد على مد النظر، لم يكن داخلها شيء سوى الدخان المتصاعد من نيران مطفأة. (أي سحر شيطاني هذا؟!) سأل نفسه.
أخبره شاهد عيان بما حدث: أثناء الحفلة، تسلل جيش كبير يقوده أحد حلفاء سيلاسي إلى معسكر بالشا، عبر طريق جانبي لم يتنبه له بالشا، غير أن ذلك الجيش لم يأت للقتال، فسيلاسي يعلم أن بالشا سوف يسمع ضجة المعركة فيسارع بالعودة مع حراسه الستمئة. ولذلك، سلّح سيلاسي قواته بسلال من الذهب والنقود. فطوقوا جيش بالشا، وانطلقوا لشراء كل قطع السلاح، ومن رفض بيع سلاحه، تم تخويفه بسهولة بمصير غير سار. وما هي سوى ساعات كانت قوة بالشا بكاملها منزوعة السلاح، وتفرق جنودها أيدي سبأ.
أدرك بالشا خطورة الوضع، فقرر أن يسير بجنوده الستمئة ليعيد شتات قواته، غير أن الجيش نفسه الذي انتزع أسلحة جنوده، اعترض طريقه. فاستبدل خياره بآخر: يزحف بمن معه على العاصمة. لكن سيلاسي كان قد نشر جيشاً كثيفاً للدفاع عنها. فكان بذلك كلاعب شطرنج، تنبأ بحركات بالشا وتمكّن من قتل الشاه على الرقعة.
ولأول مرة في حياته الصاخبة، استسلم بالشا. ولكي يكفّر عن سيئاته في العجرفة والطموح، منح خيار دخول دير للرهبان.
وبهكذا ساتر دخاني، يستطيع الشخص، أن يهدهد يقظة ضحاياه، فيجذبها إلى شباكه، فخلف الواجهة العادية غير المقروءة، يمكن التخطيط لكل أنواع المصائب المؤذية، كما الأعمال الناجحة كذلك، سواء في الكتابة أو في السياسة أو في ميدان المعركة.

ذو صلة