مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

بدر شاكر السياب.. شاعر جيكور والنخيل

إنه الشاعر بدر شاكر السياب، شاعر عراقي من قرية (جيكور) التابعة لمحافظة البصرة، شاعر لم يقدر له أن يتابع رحلته في الحياة طويلاً فرحل باكراً بسبب مرضه، ولكنه ترك لنا الكثير من القصائد التي تدل على إبداعه. عشق النخيل والطبيعة والغابات والوديان، وكتب شعراً مؤثراً مازلت أحتفظ بالكثير منه منذ كنت في الجامعة عندما درست عن شعره في السنة الرابعة في قسم اللغة العربية. شدني هذا الشعر المليء بالحزن والعاطفة والصدق، وعشق جيكور المدينة والحبيبة والأم، وكتب لها الكثير من القصائد كان أهمها قصيدة (أفياء جيكور) التي يتحدث فيها عن جمال هذه القرية وأزهارها وعصافيرها وجداولها وفراشاتها وقمرها، لتغدو جيكور جزءاً من الشاعر لا يتخلى عنه، ويتماهى فيها لأنها عالمه الجميل الذي يشعر فيه بالراحة ويتخلص من التعب وفي ذلك يقول:
نافورة من ظلال من أزاهير
جيكور جيكور يا حقلاً من النور
يا جدولاً من فراشات نطاردها
في الليل في عالم الأحلام والقمر
ينشرن أجنحة أندى من المطر
في أول الصيف يا باب الأساطير
يا باب ميلادنا الموصول بالرحم
من أين جئناك من أي المقادير
ثم يطلب من جيكور أن تلمس جبينه بنخيلها وسعفها وسنابلها ليسترخي في ظلالها وينسى ألمه، فظلال النخيل أجمل جنة عاش فيها الشاعر وافتتن بها، ومثلت له الجمال والروعة والطبيعة الفاتنة، وفي ذلك يقول:
جيكور مسي جبيني فهو ملتهب
مسيه بالسعف
والسنبل الترف
مدي علي الظلال السمر تنسحبُ
ليلاً فتخفي هجيري في حناياها
ظل من النخل أفياء من الشجر
أندى من السحر
ويتابع الشاعر فيتحد بجيكور ويحس أنها ستلم عظامه الرقيقة وتنفض كفنه من الطين وتغسل قلبه من كل الشوائب والآلام، فلولاها لم يشعر بفرح اللحظات، ولم يكن له كيان. يقول:
جيكور لمي عظامي وانفضي كفني
من طينه واغسلي بالجدول الجاري
قلبي الذي كان شباكاً على النار
فجيكور هنا لم تعد محبوبة عادية بل أصبحت الأم والوطن والملجأ والحضن الدافئ الذي ينسى فيه الشاعر كل تعب، وهي التي ستحمله في قلبها وينام بين أحضانها نومة أبدية.
ومن ناحية أخرى نرى الشاعر يبحر في حديثه عن الطفولة إلى مرافئ الأمل والمستقبل الجميل، فيتغزل بالأطفال ويشعر بالفرح عند رؤيتهم ومعايشة تفاصيل جمالهم وسعادتهم، ومشاهدة لعبهم ومرحهم، فهم رمز الجمال والبراءة في هذا الكون، وعالم الأطفال عالم مليء بالخير يضفي الحياة على كل ما حوله، ويقضي على شرور العالم المادي من أجل إحلال السلام والأمان، فضحكاتهم تعيد السعادة للمتعبين وتداوي جراح أهلهم وذويهم وهذا ما عبر عنه الشاعر عندما قال:
عصافير أم صبيةٌ تمرحُ
عليها سنا من غدٍ يلمحُ
وأقدامها العارية
محارٌ يصلصلُ في ساقية
***
عصافيرُ أم صبيةٌ تمرحُ
أمِ الماءُ من صخرةٍ ينضحُ
علينا لها أنها الباقية
وأنَّ الدواليبَ في كلِّ عيد
سترقى بها الريحُ جذلى تدور
ونرقى بها من ظلامِ العصور
إلى عالمٍ كلُّ مافيه نور
ما أجمل هذا العالم الذي يصوره الشاعر، أطفال يقفزون ويلعبون ويمرحون كأنهم الماء الذي يطلع من صخرة فيحييها، وأقدامهم حافية كأنها محار يسمع صوته في السواقي فيضفي على المكان روعة وسحراً، يالجمال هذه الأيام التي ينعم فيها الأطفال بالمحبة والسعادة، ويتعهد الشاعر أن تبقى هذه السعادة موجودة في أيامهم، وأن يستمروا في اللعب بدواليب العيد وننتقل معهم إلى غد أفضل، إلى مستقبل يملؤه الفرح، لا حزن فيه ولا شرور.
وشاعرنا أيضاً يشعر بآلام أبناء وطنه ومعاناتهم من المستغلين، وحرمانهم من أبسط مقومات الحياة فيبرز السياب ثائراً عنيفاً يهاجم المستغلين ويبعد اليأس عن النفوس التي تتعطش إلى السعادة مبشراً ببزوغ الفجر ونزول الغيث فالمطر في شعره هو الثورة وأنشودة المطر هي أنشودة قافلة الأحرار المتطلعين إلى الحياة الكريمة وفي هذا الجانب يقول:
في كل قطرة من المطر
حمراءَ أو صفراءَ من أجنّةِ الزّهَرْ
وكلّ دمعةٍ من الجياعِ والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسَمٍ جديد
أو حلمةٍ تورّدت على فم الوليد
في عالم الغد الفتي واهب الحياة
مطر مطر مطر
استمرت دفقات الأمطار والدماء بالانسياب ليتفتح عنها عالم جديد فيه البسمة والنور، ذلك العالم الذي استحضره الشاعر عبر مطر الثورة المطهر لكل أشكال القهر والظلم.
والشاعر افتتح قصيدته هذه بمخاطبة الحبيبة التي هي الأم أو القرية أو العراق أو الثلاثة معاً. والمقطع الأول شكل لوحة فنية بديعة لمحبوبة تشبه في إبداعها الطبيعة التي ما إن تبسم عيناها حتى تخضرَّ الكروم وترقص الأضواء وترتعش في عينيها النجوم. يقول:
عيناك غابتا نخيلٍ ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء كالأقمار في نهَرْ
يرجه المجذاف وهناً ساعة السحر
كأنما تنبض في غوريهما النجوم
ومما قرأت للشاعر قصيدة رائعة تحت عنوان (رحل النهار)، لفتت انتباهي لشدة جمالها، فهي تصور حزن فتاة أتعبها الانتظار وهي تجلس وتنتظر حبيبها المسافر الذي طال غيابه، بينما البحر يصرخ بعواصفه ورعوده كأنه يقول لها يا فتاة إن هذا السندباد لن يعود، فلا تتعبي نفسك ولا تؤلمي روحك أكثر من ذلك، لأن آلهة البحار أسرته ووضعته في جزر بعيدة، يقول الشاعر:
رحل النهار
ها إنه انطفأت ذبالته على أفق توهج دون نار
وجلستِ تنتظرين عودة سندبادَ من السّفار
والبحرُ يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود
هو لن يعود
أوَ ما علمتِ بأنه أسرَتهُ آلهةُ البحارْ
في قلعة سوداءَ في جزر من الدم والمحارْ
هو لن يعود
رحل النهار
فلترحلي هو لن يعود
هذا هو شاعرنا السياب، الشاعر الذي أحببتُ شعره منذ أيام الدراسة الجامعية، وتغلغلَتْ حروف قصائده في أعماقي؛ فعرفتُ سبب حزنه وشدّني هذا الحزن الآسرُ الذي يظهر شجاعة إنسان مريض يواجه الحياة بكل متاعبها بقلبٍ مليء بالحب، لا يشكو ولا يئن؛ بل تئن حروفه على السطور وتوقظُ فينا محبة الناس والشعر، والقدرة على تجاوز الألم وتحدي الأوجاع عن طريق الابتسامة الصادقة.

ذو صلة