مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

سعيد يقطين: النقد العربي متخلف نظرياً وعملياً

حوار/ سعيدة شريف: المغرب


اشتغل الناقد والأكاديمي المغربي سعيد يقطين على مدى أربعة عقود على مشروعه النقدي الذي انحاز فيه لدراسة السرد انطلاقاً من السرديات وليس غيرها من النظريات والمقاربات التي كانت سائدة، فأثمرت دراسات قيمة تدرس اليوم في كبريات الجامعات العربية، وتمكنت من تأسيس (معرفة سردية عربية)، ساهمت في الرقي بالدرس الأدبي النقدي العربي، وعملت على تجديده بدل محاكاة المفاهيم والمناهج الغربية.
فمنذ مؤلفاته الأولى: (التجريب في الخطاب الروائي الجديد في المغرب) 1985، و(تحليل الخطاب الروائي (الزمن، السرد، التبئير)) 1989، و(انفتاح النص الروائي (النص والسياق)) 1989، إلى آخر كتبه (السرديات ما بعد الكلاسيكية: مسارات واتجاهات) 2023، عمل الناقد سعيد يقطين على دراسة النصوص السردية العربية من الداخل وناقشها وقلبها على مختلف الأوجه، وتمكن، من خلال اجتهاداته الدؤوبة، من توليد مصطلحات نقدية، وفتح آفاق جديدة للدرس النقدي العربي المشرعة على السجال والنقاش الموضوعي مع مختلف الاتجاهات الحالية التي تعرفها الدراسات السردية العالمية.
وقد بوأته هذه الاجتهادات مكانة متميزة في الساحة النقدية العربية، وجعلته يحصل على العديد من الجوائز العربية والمغربية الرفيعة، التي لم يضعها أبداً هدفاً لأعماله، رغم أنه يرى في الجائزة التي يحصل عليها (تثميناً للأعمال التي أقوم بها، وهي خير ما يناله المرء مكافأة له على مجهوداته، وعلى ما يبذله من وقت وجهد في القراءة والكتابة)، كما جاء في هذا الحوار الخاص لـ(المجلة العربية).
عملت منذ أربعة عقود على تأسيس مشروعك النقدي المهتم بالسرد، والذي كان يتوجه نحو المستقبل خطوة بخطوة، كما ذكرت في كتابك (عتبات السرديات ومناصاتها: مقدمات وحوارات)، فبعد كل هذه السنوات كيف تنظر إلى هذه التجربة النقدية والتنظيرية؟
- يمكن للقارئ والباحث أن يجيب عن هذا السؤال ليؤكد أولاً ما إذا كان ثمة مشروع، أو تجربة خاصة أم لا. بالنسبة إلي أرى أن التجربة كانت مهمة لأنها انبنت على مشروع بدأت التفكير فيه، والتخطيط له منذ حصولي على الإجازة في تحليل الشعر المغربي. لقد تبين لي منذ ذلك الوقت (1979) أن الدراسة الأدبية العربية تعيش أزمة حقيقية. وكل المقالات التي نشرتها منذ 1976 كانت ذات طابع سجالي، وتسير في اتجاه نقد الممارسة النقدية العربية لإبراز افتقادها إلى مرجعية نظرية، وعجزها على أن تكون مؤسسة على تصور قابل للتطور. إن هذا المشروع الذي اعتمدته منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي، والذي انحزت فيه إلى دراسة السرد انطلاقاً من السرديات وليس غيرها من المقاربات أو النظريات التي ظهرت في الستينات في الغرب لدراسة السرد، لا يني يتطور وهو يفتح عدة نوافذ مترابطة، من الرواية والقصة القصيرة إلى السرد العربي القديم، فالنص الرقمي والثقافة الشعبية، والتحليل الاجتماعي. ولقد جاءت فكرة هذا الكتاب الذي أشرت إليه بعد أن كتبت مقالة حول (سردياتي)، وظهر لي أن إعادة نشر مقدمات كتبي يمكن أن تساعد القارئ والباحث معاً على معاينة تشكل مشروع، منذ أكثر من أربعين عاماً، وتطوره، وعلى تجربة تترابط فيها المؤلفات وفق نسق يبرز من خلاله كتاب لاحق من رحم آخر سابق عليه.
وإلى أي حد تمكنت من تأسيس (معرفة سردية عربية) ترقى بالدرس الأدبي وتعمل على تجديده عوضاً عن محاكاة المفاهيم والنظريات والمناهج الغربية؟
- لا يمكنني ادعاء أنني أسست معرفة سردية عربية، وإن كان ما أنجزته دالاً على ذلك. ويكفي الرجوع إلى الكتب العربية التي تعود إلى مشروعي وتجربتي لتأكيد أن هناك مساراً قطعته هذه التجربة، وكان لها حضور وتأثير في الكثير من الكتابات العربية التي استفادت منها بشكل أو بآخر. أما مسألة التجديد والمحاكاة فقد كنت واعياً بهما معاً منذ بداية اهتمامي بالنقد الأدبي وأنا طالب في المرحلة الثانوية حيث كنت أعيب على بعض المؤلفات العربية محاكاتها لما يكتب في الغرب، أو يُنسخ من التراث النقدي والبلاغي العربي دون أي اجتهاد، أو نقاش، أو طرح سؤال. وظل هذا الوعي يتحكم في قراءاتي وكتاباتي إلى الآن. إنني أتفاعل مع ما أقرأ، بشكل إيجابي، وأعمل النظر، وأطرح الأسئلة، وأنطلق من النصوص، ولذلك يلاحظ القارئ أنني في مختلف مؤلفاتي أعمل على إبراز الخلفية التي أشتغل بها، وأقدم النظريات لكي يعرف القارئ خصوصيتها، وأبين دائماً موقعي مما أقرأ، وتصوري الذي أتبناه وأنا أعمل على الانتقال إلى التطبيق. ومن التطبيق كنت أولِّد بعض المصطلحات، أو أقدم تصورات قابلة للتطوير (الكلام والخبر: مقدمة للسرد العربي 1997 مثلاً). ويلمس القارئ دائماً نوعاً من السجال الذي أمارسه مع النظريات الغربية. ويمكن للقارئ أن يلاحظ هذا منذ كتاب (القراءة والتجربة) (1985)، إلى كتابي الأخير (السرديات ما بعد الكلاسيكية: مسارات واتجاهات) (2023) الذي يلمس فيه القارئ نقاشاً موضوعياً ونقدياً ومواقف واضحة جداً من مختلف الاتجاهات الحالية التي تعرفها الدراسات السردية العالمية.
وكيف تقيم السرد العربي في ظل الوفرة التي يشهدها اليوم، مع تخصيص جوائز عربية للرواية تحديداً؟ وهل أنت مطمئن لمستقبل السرد العربي؟
- منذ أن بدأ الإبداع العربي الحديث يكتشف في السرد ما افتقده مثلاً في الشعر، وتطورت الرواية لتحظى بمكانة خاصة في هذا الإبداع، بما يتيحه للكاتب من إمكانات لا محدودة للتعبير عن رؤيته للذات والآخر، وللواقع والتاريخ، وللحقيقة والخيال، صار الإقدام على الكتابة السردية مفتوحاً ومتاحاً لكل من يرى أن بإمكانه تقديم قصة، أي مادة قابلة للحكي. لقد سمح هذا الوضع بانتقال الإبداع السردي من الأدب الذي لا يمكن أن يكتب فيه سوى الأدباء الذين مارسوا الكتابة في أحد أجناسه، مثل الشعر والمسرح، أو أنواعه السردية مثل القصة القصيرة والرواية، إلى السرد الذي يمارسه أي إنسان، بدءاً من الحياة اليومية إلى غيرها من الكتابات التي يتجلى فيها السرد بصورة أو بأخرى. فكان أن انخرط في الإبداع السردي شعراء ومؤرخون وجغرافيون وسياسيون وغيرهم. وكان لانتشار الرواية العربية وفرضها نفسها منذ السبعينات من القرن الماضي من خلال أسماء قدمت تجارب متميزة في الكتابة الروائية، وخلقت بذلك جمهوراً واسعاً للرواية العربية يتجاوز المهتمين بالأدب، إلى قاعدة كبيرة من القراء، بعد أن صارت الرواية العربية النوع السردي الأكثر إثارة للاهتمام والقراءة والكتابة. ومن خلال إدمان القراءة السردية بدأت تتشكل الرغبات في السير على منوالها، وتجريب كتابة رواية. فتفوق الكثير منهم، وبعضهم دخل الساحة الأدبية من خلال كتابة رواية أولى، ولم يكن معروفاً قبلها. كما أن هناك مهتمين بالنقد أو الفكر، أو الشعر، انتقلوا إلى الإبداع الروائي ففرضوا أسماءهم من خلال السرد أكثر مما فعلوا في مجالات تخصصهم الأولى، ونال بعضهم جوائز عربية مهمة، واستمر يواصل كتابة الرواية. وكان لتزايد الاهتمام بالرواية في الدراسات الأدبية العربية، وكثرة الجوائز الخاصة بالرواية الدور الكبير في تشجيع الكتاب على الإقدام على كتابة الرواية من مختلف الأجيال، ومن خلال الجنسين معاً، وفي كل الأقطار العربية.
مع التطور الذي عرفته الرواية العربية المعاصرة نلاحظ الآن أن هناك تزايداً مهماً على مستوى الكم، ومستقبل السرد رهين ببروز الكيف، وهذا وليد تطور الحساسية الإبداعية لدى الكتاب والقراء معاً، وتبلور رؤيات جديدة للواقع العربي في ضوء ما يحبل من تغيرات وتبدلات.
وهل النقد العربي برأيك، وبأدواته المتوفرة، والتي لا يتم في أغلب الأحيان توليدها من النصوص السردية، قادر على مواكبة ورصد التحولات التي تعرفها الكتابة السردية العربية المفتوحة على التجديد والتجريب؟
- كنت دائماً أرى أن الإبداع الروائي العربي أهم من النقد الروائي. فهو غير مواكب، وعاجز عن مواكبة ما ينشر في كل الوطن العربي. وأهم ما ينجز حالياً من كتابات نقدية معظمه وليد رسائل أو أطاريح جامعية. وبغض النظر عن محتوى هذه الأطاريح التي يغلب عليها السير على منوال واحد في مقاربة الرواية من خلال زوايا معينة، دون الالتفات إلى غيرها، نجد الكثيرين يتوقفون عن مواصلة البحث وتطوير الدراسة السردية. ولما كانت المواكبة لا يمكن أن تتم إلا من خلال الإعلام الثقافي الذي يرصد جديد الإصدارات نجد هذا الإعلام العربي لا يضطلع بدوره في ذلك عكس ما نجد في الغرب حيث يحظى الكتاب عموماً، والسردي خاصة بمتابعة يومية في التلفزيون حيث تقدم رواية مثلاً في برنامج بحضور الكاتب ومجموعة من النقاد والقراء، ويتبادلون وجهة النظر حول الإنتاج. لذلك فإن النقد العربي متخلف نظرياً وعملياً أيضاً. ولهذا لا نجده يقوم بدوره في التقويم والتقييم. ولم تبق سوى ما أسميها (القراءة المجيزة)، والتي هي وليدة لجان الجوائز التي تختار الرواية المؤهلة للجائزة. وحتى هذه القراءة لا تقدم لنا سوى جملة مفيدة، أو غير مفيدة عن العمل الفائز. ولقد اقترحت مراراً، أن يكتب لنا كل أعضاء لجنة جائزة ما دراسات نقدية شاملة تبين لنا قيمة وميزة الرواية الناجحة. ولو أن كل جائزة  تقدم إلينا من خلالها ثلاث قراءات حول رواية ما لكنا مع الزمن أمام مساهمات كثيرة في التقييم والتقويم والنقد.
حصلت على مجموعة من الجوائز المغربية والعربية كان آخرها جائزة الكويت في مجال العلوم الإنسانية لعام 2022، وجائزة كتارا للرواية العربية لعام 2022 في صنف البحث والدراسات النقدية، فماذا تمثل الجوائز بالنسبة إليك؟
- يمكن أن نميز بين من يكتب للجائزة وينتظرها، وقد يحالفه حظ نيلها، أو يجانبه. ومن لا يكتب للجوائز ويحصل عليها لاجتهاداته ومثابراته في تقديم جديد الدراسات وعميقها. كما أن هناك جوائز تشرف من حصل عليها، وأخريات يشرفها من ينالها عليها. إني أثمن كل الجوائز لأنها مهمة بالنسبة لأي عامل كيفما كان نوع عمله. إنها مكافأة رمزية ومادية، واعتراف وعرفان بالمجهودات المبذولة في أي حقل من الحقول. وأرى أن الجائزة التي أحصل عليها تثمين للأعمال التي أقوم بها، وهي خير ما يناله المرء مكافأة له على مجهوداته، وعلى ما يبذله من وقت وجهد في القراءة والكتابة. ومن لم يكتب لا يمكنه أن يقدر الطاقات التي تبذل من أجل كتابة بضع صفحات، أو بالأحرى عدة كتب في بضع سنوات. لقد تطور الإبداع العربي الذي وصلنا من العصور القديمة بسبب الصلات التي كانت تقدم للشعراء والكتاب من قبل خلفاء أو أمراء أو ولاة كانوا يشجعون الإبداع والتأليف. ومتى كان التراجع عن التشجيع وجزل العطاء، كان الإبداع يعرف تراجعاً.
وما تفسيرك للنجاح الذي تحققه الدراسات النقدية المغربية، والتي غالباً ما تكون لها الحظوة في أغلب الجوائز العربية، وتحديداً جائزة كتارا، التي تعرف تصدراً للإنتاج النقدي المغربي على غيره من البلدان العربية؟
- كنت في أول تجربة كتارا ضمن لجنة تقويم الإبداعات الروائية. وطرحت فكرة كيف نثمن الإبداع الروائي، ولا نكافئ النقد الروائي الذي يواكب التجربة الروائية العربية ويعرف بها، ويقومها، وقدمتها على هامش حفل الجائزة. ولقد استجاب منظمو هذه الجائزة في التجربة اللاحقة -مشكورين- وجعلوا جائزة الدراسات النقدية ضمن جائزة كتارا. أما موقع النقد الروائي المغربي من الجوائز فدال على خصوصية التجربة النقدية الروائية المغربية. لقد بدأ هذا النقد يفرض نفسه مغربياً وعربياً منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي، وتطور خلال العقود اللاحقة. ولعل الأمر في ذلك يعود إلى أن الدراسة الروائية العربية تأسست على خلفية عميقة نظرياً وتطبيقياً. لقد كان لفتح مسار (الرواية) في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط سنة 1981 بإشراف الأستاذين أحمد اليبوري ومحمد برادة أثره في تكوين عدة طلبة تكويناً تزامن مع ظهور البنيوية في المغرب، وكل النظريات الجديدة. فكان التعرف على هذه المناهج في لغتها الفرنسية، لأن البنيوية كانت فرنسية اللسان. فكانت ترجمة أعمال رواد النقد الجديد، وكان النقاش والحوار والمواكبة لكل ما كان يصدر من اجتهادات في هذا النطاق. ومن هنا كانت الريادة المغربية على الصعيد العربي. وكل الأجيال التي تعاقبت منذ الثمانينات إلى الآن هي وريثة التقاليد التي تأسست منذ أربعة عقود، وهي تسير على المنوال عينه، في السعي إلى فهم النظرية، والاجتهاد في الاشتغال بالنصوص الروائية العربية والمغربية دون تمييز أو انحياز. وإلى الآن ما تزال الرواية فارضة نفسها في الساحة المغربية، وتثير المزيد من الاهتمام. ويبدو ذلك في كون الكثير من الروائيين المغاربة يحصدون جوائز عربية (عز الدين التازي، محمد الأشعري، سالم حميش..). لذلك لا غرابة في هذا المناخ أن يحظى النقد الروائي المغربي بالمكانة التي يستحقها عربياً.

ذو صلة