مجدي دعيبس: التاريخ للروائي منجم ذهب لا ينضب
حوار/ محيي الدين جرمة: اليمن
البساطة التي تفكر، تسكنه حد محاورة تجربته من الداخل لأسئلة ملحة، تتلبسه لحظة الرواية وإنجازها، بكيفية تسبقها معرفة الكاتب، بطرق التزلج، والصيد الحذر، بساطة عميقة هي ما يؤسس له قاص وروائي ناجح، حين يتعلق الأمر بتجربة الكاتب الروائي الأردني مجدي دعيبس، ذلك أن شغف الكتابة لديه، ليس من السهل بمكان، أن يتأتى، سوى من خلال مختبر رؤياته في مقاربة التاريخ والجغرافيا، لا بالمعنى المباشر للكلمة، ولكن وفقاً لشرط الكتابة ذاتها، وفن السرد والحكاية داخل الرواية.
تختلف لغته ومتخيله عن رؤية الموثق أو تقرير المؤرخ إذ يرتهن بالعادة للانحياز غالباً، كما لمرجعية يتكئ عليها في تستطير وقائع وأحداث ما، استطعت معرفة ما يدور في مشغل مجدي السردي عبر استدراجه إلى سؤال السرد المتشعب، فكانت مفاجأة تداعيه كنهر أفكار في الجريان، إلى رؤى فيها من الخبرة والمعرفة ما يفيض ليتسع بالمعنى وزيادة، حول ملامح وسمات من تجربته وعلاقة روايته (قلعة الدروز) الحائزة على جائزة كتارا في 2019 بالتاريخ، وتداعي ثلاثيته في تعاقب عناوينها الأخرى، علاقته وحدسه المتعشق بالتجريب وباللغة كعنصر أساسي في السرد، وبنياته ونسيج حكاياته، كان هذا الحوار.
تتنافذ رؤية النقد لـ(قلعة الدروز) عبر تأمل معطيات السرد مضفوراً بحكايات متداخلة قدمت روايتك من خلالها ما يشبه (سيرة تقلبات جغرافية وتاريخية في ظل ثورات وطنية)؟
- قلعة الدروز هي الجزء الثاني من الثلاثية التاريخية بعد الوزر المالح، وهناك رواية ثالثة انتهيت من كتابتها، وستنشر خلال العام القادم أو الذي يليه. وكما أشرتَ في سؤالك فإنّ الثورات هي الخيط الناظم الذي يربط هذه الثلاثية، ليس على طريقة رواية الأجيال، بل هناك شخصيات وحكايات مختلفة في كل مرة. الجغرافيا حاضرة في الأجزاء الثلاثة، فالمكان برأيي هو الذي يمنح الرواية شرعيتها المعرفية والثقافية والتنويرية. أما بالنسبة للتاريخ، فما يحدث هنا، هو اتكاء على المفصل التاريخي الذي يشكّل الإطار الخارجي لأي لوحة فنية، وتظل الشخصيات وتفاعلها مع معطيات المكان والزمان المادة الفنية وجوهر العمل.
لديك أعمال قصصية وروائية، فما الذي قد جلاه الناقد الأدبي أمامك من سمات وملامح السرد وخفاياه عند مقاربته لمنجزك الأدبي، ولم تكن لتلتفت إلى ذلك؟
- يعايش الكاتب شخصياته لفترة من الزمن ويعتاد تصرفاتها وردود أفعالها، فيدخل في روعه أن الشخصية تظهر على الآخرين كما يراها هو، وهذا قد لا يكون دقيقاً نتيجة لفعل الاعتياد الذي يصنع فارقاً خفياً بين رؤية الكاتب وتلقي القارئ. هناك دائماً أحاديث جانبية وتبادل وجهات النظر مع الناقد في الملتقيات والمنتديات الثقافية. أستمع لأفكار وملاحظات ثرية حول هذا العمل أو ذاك. أنا أؤمن أن العلاقة تكاملية بين الكاتب والناقد على أساس أن ما كتبناه بالأمس هو تدريب مفيد ومثمر لرواية سنكتبها في المستقبل. وأحب أن أشير هنا إلى أن الملاحظات التي أتلقاها من القارئ غير المتخصص على قدر كبير من الأهمية أيضاً، ولطالما أفدت منها وأخذت بها.
في رواية (الوزر المالح) التي نالت جائزة (كتارا) للرواية العربية 2019 وبدا الاهتمام بها ونقاشها إثر صدورها، هل وافقت ما عدها البعض (حكاية حب في زمن الحرب)، أم تكتفي بتفاصيل ما قدمته من أحداث وأمكنة حميمة كإربد مثلاً؟
- لا شك أن الحكاية جزء من الرواية، لكن كيف قُدّمتْ هذه الحكاية؟ هل اشتملت على بعد إنساني دفعك للتعاطف مع الشخصيات ومآلاتها؟ هل برزت ثنائيات حثتك لإعادة التفكير في مسلّمات كنتَ قد فرغتَ منها منذ زمن بعيد؟ هل شممتَ الروائح ورأيت المكان وآثار الأقدام على الطرقات الترابيّة؟ هل قدمتْ الرواية معرفة تُضاف إلى رصيدك التاريخي والجغرافي والثقافي؟ هل أقنعك الحوار ووجهات النظر؟ كيف وجدت اللغة؟ شديدة التقعر أم مسطحة سلسة مناسبة لطبيعة الحدث؟ أسئلة كثيرة يمكن أن تطرح في سياق الرواية والحكاية، ويظل القارئ المتمرس قادراً على التمييز بين عمل وآخر من خلال أدوات قياسه الخاصة به.
الحكاية حدث بسيط أو مبسط مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالغاية المبيتة المقترنة بالحكاية، كما يسود في أحداثها لونان لا ثالث لهما: الأبيض والأسود، بينما الرواية يمكن أن تحمل أبعاداً فكرية وفلسفية معقدة في نسيج روائي قابل للتأويل والإحالة.
يكشف سياق من الرواية سطوة العسكر العثماني، عبر الاستئثار بموقعه في (دار السراية)، وتصرفاته مع الشبيبة العرب ومآلاتهم في التجنيد، كيف تنظر إلى علاقة الروائي بالتاريخ؟
- التاريخ منجم ذهب لا ينضب بالنسبة للروائي. هناك دائماً ما يستحق التنقيب والنبش والبحث في إمكانية التوظيف. التاريخ مادة روائية كامنة تنتظر من يعيد تشكيلها وقولبتها على شكل عمل روائي. لا أقصد هنا الرواية التاريخية على طريقة السلف الصالح كما فعل جورجي زيدان على سبيل المثال ولكن أن يقول الروائي ما سكت عنه المؤرخ المحكوم للحقائق من أسباب ونتائج. يعمد الروائي إلى المزاوجة بين الحقيقي والمتخيّل بين العام والخاص وبين الحدث والحوارات التي سبقته ورافقته وتلته. لا ننسى أيضاً الفانتازيا التاريخية التي تستوحي روح التاريخ بمكان وزمان متخيلين.
هل تميل في السرد إلى تقنية بناء الشخصية وتوظيف المتخيل الروائي في مقاربة التاريخي، أم أن السياق من يفرض نفسه في تعاطيك مع بناءات وشخصيات ولغة المروي؟
- في الثلاثية التاريخية اعتمدت على تقنية البولوفونية أو المزاوجة بين تعدد الأصوات والراوي العليم، مما يتيح للشخصية مساحة أكبر من الحرية والبوح من خلال المونولوجات والاستطرادات التي تكشف جوانية الشخصية ودوافعها ومفاتيحها. برأيي، المهم هو عدم التجبر بالشخصية ولي ذراعها حتى تقول وتفعل ما يريد الكاتب، بل يجب أن تكون أفعالها وردود أفعالها منسجمة مع طبيعتها التي رسمها الروائي. إذا ظهرت الشخصية ضعيفة ومهزوزة طوال الوقت، فكيف لها في نهاية الرواية أن تقوم بعمل جريء وبطولي من دون مسوغات مقنعة؟
في الرواية (يعرض سليم على أهل مريم الفتاة الجميلة، إطلاق سراح ابنهم وإعفاءه من التجنيد لقاء زواجه بمريم) ربما شدت قارءك خيوط حكاية على هذا النحو، ولكن أنت ما أولوياتك إبان الكتابة في تأثيث الحكاية ذاتها من زوايا مختلفة؟
- كنت وما زلت أسأل نفسي السؤال التالي: أين تقع إنسانيتنا في كل هذا الذي يمور من حولنا؟ ثنائية الواجب وإنسانية الإنسان موضوع معقّد وشائك. حروب وتهجير وعرقيات وإثنيات وتشدد وقتل واغتصاب وعداوات وأطفال ونساء وشيوخ. متتالية لا تنتهي من الألم والظلم والقهر. سليم الإنسان وسليم العاشق، وسليم البطل الجريء وسليم المستعمر وسليم الضابط التركي الذي ينفذ واجبه في هرمية الدولة ويدفع بأبناء العرب إلى حروب لن يعودوا منها. كيف تجتمع كل هذه المتناقضات في شخص واحد، وما بين الواجب والحب، ما بين الحب والحرب.. أين يقف الإنسان؟ هذا هو السؤال الجوهري: هل هناك ما يبيح تخلي الإنسان عن إنسانيته؟
ما التقنية السردية التي يحرص مجدي دعيبس على أن لا تتكرر في روايات آخرين وإن أفضى الحال إلى بعض التشابه في التيمة أحياناً؟
- التقنيات السردية متاحة للجميع، لكن الفيصل هو استخدامها في الموضع الصحيح وبالطريقة المؤثرة. أميل إلى التخفف من السارد العليم وخط الزمن المتسلسل ما أمكن، ولا توجد لدي قواعد ثابتة حول استخدام هذه التقنية أو تلك، السياق وحده من يحدد هذا الأمر.
(ليل طويل حياة قصيرة) مجموعتك القصصية، نظر إليها بوصفها (رؤى متعددة في واقع الإنسان الراهن) هل علاقتك بالقص متماثلة مع طريقة كتابتك الرواية أو فصل سردي منها؟
- (ليل طويل.. حياة قصيرة) تعرض نماذج من غربة الإنسان ووجعه في هذا الزمن الصعب. الرواية والقصة من فنون السرد لكنهما مختلفتان ومتباعدتان في الرؤية والمنظور. القصة يمكن إنجازها في يوم والرواية تحتاج لعام أو أعوام من الكتابة وإعادة الكتابة والحذف والإضافة حتى تصبح صالحة للنشر. أقول هذا فقط لإعطاء مؤشر بسيط حول بعض الأمور المترتبة على كتابة القصة أو الرواية.
تهتم قصصك بمواضيع راهنية مثل (الحرب، اللجوء، الفقر، وغير ذلك) مما قد يلم بالإنسان من تعقيدات الحياة، أين تجد نفسك كروائي أو قاص، وأيهما أقرب إلى شغفك بالكتابة؟
- الرواية عمل مرهق ويحتاج لنفس طويل، والقصة محطة استراحة. ولا أقول هذا للحط من شأن القصة لأن المجموعة القصصية الناجحة تحتاج لرؤية تجريبية متينة، وهذا لا يتأتى بالمجان بل يحتاج لبحث مكثف وقراءة واعية. الشغف في الكتابة الناجحة وليس في الجنس الأدبي.
هل تتيح تقنية كتابة القصة لديك اتساعاً في الرؤية، وحركة الشخوص، أم أن ذلك يبقى رهيناً لعناصر وأحياز لها محدداتها حتى في غمار تمردات فن ورؤية الكاتب أحايين في القفز على المفاهيم، بغاية التجريب أو التجديد؟
- القفز على المفاهيم أو اجتراح مفاهيم جديدة هو جوهر العمل التجريبي. صدر لي ثلاث مجموعات قصصية لغاية الآن، وفي كل مجموعة أحاول تجاوز المرحلة السابقة وعدم تكرارها. لا أعدها في مجال التجريب ولكن هي قفزة صغيرة قد يتبعها قفزات أكبر. لا أعرف إلى أي قدر أنجح أو أخفق في مسعاي هذا، لكن المحاولة لا تتوقف. في المقابل التجريب يشتمل على خطورة ما وعلى الكاتب إدراك هذا الأمر، ليس كل تجريب مقبول وموفق ومعقول. التجريب بحاجة لرؤية وأساس نظري يقوم عليه فعل القص. هناك تجارب عربية ناضجة في هذا المجال ونتابعها بشغف وترقب.
تفضل القرب من المحيط الاجتماعي، وإن باشتراطات النوع الأدبي الذي تكتبه، وفي نصوصك، تحرص على: اقتصاد اللغة والأداء وعدم الإغماض، كيف تقوم برأيك علاقة الكاتب باللغة، هل يجاوز كونها وعاء، أيمكن للكاتب تطويعها بشكل آخر متغاير؟
- هذا موضوع مهم، الاقتصاد باللغة مختلف تماماً عن التكثيف كما في الشعر. الاقتصاد هو نقيض الإطالة غير المبررة التي يمكن أن تؤدي إلى الثرثرة. صفحات كثيرة من الكلام الملغز غير المفهوم. بعد أن يأخذ الحدث حقه ويصل إلى المتلقي لا داعي لسفح المزيد من الكلمات والجمل والصفحات والإفاضة العمودية (كما أسميها) التي لا تنقل الحدث أفقياً نحو بؤرة العمل.
تساهم لغة السرد لديك في إثراء ما تقدمه من عمل جديد لا تعوزه الحبكة والبناء، وسبر واستغوار نفسية الشخصية في القص أو العمل السردي الذي يحتمل الاتساع والتمدد كالرواية؟
- لغة السرد من العناصر المهمة في العمل الروائي. هناك من يلجأ إلى لغة شعرية موحية تحيل النص في كثير من المواضع إلى قصيدة نثر، وهناك من يمعن في التشبيه والاستعارة. أنا لا أنكر أياً من هذا بل أدعو إليه أيضاً، ولكن في حدود الملح من الطعام. أميل إلى اللغة المسطحة التي تكشف الأبعاد الحقيقية للحدث ولا تحمله ما يربك القارئ المعتاد على لغة مباشرة لا تحتمل المراوغة وقول الشيء ونقيضه في الوقت عينه.