مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

نايلة أبي نادر: طريق الفلسفة لم يفرش بالورود

حوار/ سعيدة شريف: المغرب


اشتغلت الدكتورة والباحثة اللبنانية نايلة أبي نادر على الفكر والفلسفة، وخصصت مجموعة من الدراسات للفكر العربي الإسلامي، وقاربت العديد من الإشكاليات المعاصرة كالتطرف والعنف وغياب الاجتهاد، وقاربت أسئلة الدين والعصر انطلاقاً من الفكر الحداثي المسلم المستنير، كما فعلت في كتابها (التراث والمنهج بين أركون والجابري)، الذي كان أطروحتها للدكتوراه، وجمعت فيه بين المفكرين: محمد أركون ومحمد عابد الجابري رغم أن لكل منهما منهجه الخاص، وذلك بغية الوقوف على مشروعين نقديين تميزا بتوظيف الفكر الحداثي في تقديم فهم جديد للتراث. وإلى جانب هذا اهتمت الباحثة بالشعر العربي الحديث، وتحديداً تجربة الشاعر اللبناني شربل داغر، الذي خصصت له كتاباً بعنوان (شربل داغر: العولمة والنص)، كما حرصت ومازالت على تناول أسئلة العصر المؤرقة ودور الفلسفة والفكر النقدي في النهوض بالمجتمعات العربية، لأنها تعتبر نفسها في حالة مرافعة مستمرة عن القيم والبحث عن المعنى الحقيقي لحياة الإنسان في ظل طغيان التكنولوجيا المتطورة والآلة.
وللتقرب أكثر من هذه الباحثة، التي انخرطت مبكراً في العديد من المؤسسات الفكرية والثقافية إضافة إلى عضويتها في لجنة تحكيم جائزة محمد أركون للسلام بين الثقافات، كان لـ(المجلة العربية) هذا الحوار الخاص معها.

حدث في السنوات الأخيرة نوع من الالتفاف والاهتمام بالفلسفة حتى في الحياة اليومية، حيث يتم الحديث عن الفلسفة وفن العيش، فكيف يمكن للفلسفة اليوم أن تغير وتساهم في الإصلاح وجلب السعادة للإنسان؟ وأي مكانة يمكن أن تأخذها في عصر الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي؟
- هذا السؤال يطرح تحدياً كبيراً يواجه الفلسفة ليس في عصر الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي فحسب، إنما منذ ما قبل ذلك بكثير. إن من يراجع بعض صفحات تاريخ الفكر يلحظ أنه لم تكن طريق الفلسفة مفروشة بالورود، ولا مرصعة بحفاوة الاستقبال منذ البدايات الأولى. كان أهل الحكمة يقتحمون بعناء مرير الحيز العام، إذ كان هناك دائماً من يواجههم ليعترض مسار الفلسفة ويتصدى لها. فالشوك نبت وأدمى يديها، والحبل التف وضيق الخناق عليها. منذ زمن لم يكن الطريق معبداً أمام العقل المنشغل بالسؤال عن الحقيقة، والمنهم بالبحث عن المعنى، والمتكل على قدراته في التعرف على الواقع. العقل له سلطة تفرض نفسها كلما قامت في مقاربة الأمور بمنطق وموضوعية، وهذه السلطة بالتحديد تزعج، بل تربك كل من يهوى أن يسيطر على الآخرين ويتحكم بوعيهم لكي يبسط نفوذه بإحكام عليهم. إن سعي الفلسفة، منذ البداية إلى تحرير الوعي، وجعله يقارب الأمور المطروحة أمامه من زوايا عدة أكثر انفتاحاً على المعنى، لم يكن مرحباً به، لا من قبل السلطة الدينية ولا السلطة السياسية، ولا حتى سلطة العلم في فترة ازدهاره وفورانه.
تمكنت الفلسفة من تأمين استمرارية التساؤل عبر العصور، وترسيخ الهم المعرفي، والعمل على إعادة النظر فيما قدمه الإنسان من ثقافات، وما تفرع منها. وهي اليوم، على الرغم من مختلف التحديات التي نتجت عن الثورة التكنولوجية، لن ترمي سلاح النقد، ولن تتخلى عن حلاوة التأمل والتفكر والتحليل والمراجعة. صحيح أن الاهتمام المباشر بالميتافيزيقا قد تراجع، وأصبح للفلسفة انشغالات أكثر قرباً من الواقع المعاش، ومن الهموم اليومية التي تعترض الإنسان، وهي كثيرة ومتنوعة، لكن ذلك كان له أثر طيب في تقريب الفلسفة من الناس. لم يعد التكرس لحل المعضلات الماورائية هو الهاجس اليوم كما في السابق، فأصبحت الفلسفة تقتحم أسئلة الجيل الشاب، وتتسلل إلى البرامج التي تطرح الهموم السياسية والاقتصادية والأخلاقية والدينية وحتى التكنولوجية. أسئلة جمة باتت تطرح اليوم بعد كل ما يُحكى عن الإنسان الآلي، ومهاراته الخارقة، وإنجازاته التي من الصعب إحصاؤها وتوقع نتائجها. إن في ذلك، محفزاً قوياً على التفكير في قيمة الإنسان، في معنى أن تكون إنساناً، في قدرتك على التميز عن الآلة، وغير ذلك من التحديات التي تحاول الفلسفة جاهدة التأمل فيها، وتحليل أبعادها.
كل ما يواجه الإنسان المعاصر اليوم من مشاكل وفقدان أمان وأزمات متتالية يجعله عرضة للقلق والتفكير، أكثر من قبل، وللبحث عن معنى لحياته، أكثر من قبل. الشعور بالغربة، والخيبة، يدفعنا إلى البحث عن السبب، والعمل على حماية الذات من مسلسل الانهيارات المحيط بنا. وهذا كله تُسهم الفلسفة في بنائه من جديد. لذا، الحاجة إلى الفلسفة تظل حاضرة، ومن يعتقد أن الآلة سوف تغنيه عن التفكر والبحث، فهو يُلغي أهم ما فيه من خاصية، وأبرز ما يميز وجوده عمن سواه.
باعتبارك متخصصة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، وأفردت جزءاً من أبحاثك لمقاربة الإشكالات المعاصرة، فكيف تقيمين الدراسات الفكرية اليوم في العالم العربي؟ وهل استطاعت التجديد وخلخلة بعض المرتكزات والتأسيس لمعنى جديد؟
- لا أزعم أني على بينة بكل ما يتم نشره من دراسات فكرية متخصصة في الفكر العربي، لكن، يمكن أن ألحظ أنه إذا تابعنا قسماً لا بأس به من الإصدارات، منذ ثلاثة عقود من الزمن حتى اليوم، ننتبه بسهولة إلى حضور ملفت للفكر النقدي، وإلى مواكبة ملفتة لإشكاليات العصر، وإلى محاولة استخدام الفكر النقدي في قراءة الإخفاقات وتحليل الأسباب المؤدية إليها واستشراف النتائج.
صحيح أن صناعة الكتاب تمر بأزمة لها أسباب عدة، لكن عملية النشر لم تتوقف، والتوق إلى نشر الفكر لم ينقطع. هناك من يبذل الجهد للتفرغ في الدرس والتحليل وإعادة النظر وطرح الأسئلة التي تحث على البحث والتدقيق، لكن للأسف، ليس هناك من يقرأ كفاية. كذلك، إن ترصدنا عدد المؤتمرات العلمية والندوات الفكرية والحوارات الثقافية، نجد أنه في حال ازدياد وازدهار. كما أن عدد المراكز البحثية والمؤسسات الفكرية والمجلات المتخصصة يزداد هو الآخر، ما عدا قنوات اليوتيوب التي تبث أسبوعياً برامج ومقابلات مع المشتغلين بالفكر. ولن نغفل هنا عن عدد معارض الكتب وما يرافقها من أنشطة في الدول العربية، إذ تحولت إلى مظاهرات ثقافية ينشغل بها عدد كبير من المهتمين بشؤون الكتاب. كل ذلك بات يشكل ظاهرة من المفيد التوقف عندها لدراستها، وتتبع خطاها والنتائج التي تولدت عنها.
لكن، من المؤسف أن معظم هـذه المجهودات يبقــى محصـــوراً في إطار أكاديمي ضيق لأسباب عدة، أذكر بعضاً منها: صعوبة الخطاب، وانشغال العامة، بخاصة جيل الشباب، في تأمين أساسيات العيش، أو في خوض المعارك والحروب على الرغم منهم، بالإضافة إلى ضعف تواصل المفكرين والباحثين مع محيطهم، وقلة حضورهم في المناسبات الثقافية، وترددهم في قبول الدخول في حوارات مفتوحة مع المتلقي العربي.
إن المشاريع النقدية التي حملها أصحابها منذ عصر النهضة حتى اليوم لم تُحدث الانقلاب المنشود، ولم تُحقق طبعاً أهداف أصحابها، لكنها استطاعت، كما تفضلتِ في سؤالك، أن تُحدث خلخلة لبعض الثوابت والمرتكزات، وحثت الطلبة في الإطار الأكاديمي على المزيد من التنقيب والبحث. لكن، ما زال هناك الكثير يجب القيام به، الطريق طويل وشائك. فالبقاء مكتوفي الأيدي بسبب الإحباط، أو الانزواء في المكاتب أمام شاشة الحاسوب تحيط بنا المراجع المهمة والكتب النادرة، أو الاكتفاء بالتمتــع في إصدار البحث تلو الآخر، وعرضه هنــا أو هنــــاك، كل ذلك، كما تبين، لم ولن يحقق التغيير المطلـوب.
إلى جانب اهتمامك بالفلسفة والفكر، اشتغلت على الشعر العربي وبحثت من خلاله على مداخل لمقاربة أسئلة الراهن، كما هو الحال مع كتابك عن الشاعر اللبناني شربل داغر المعنون بـ(شربل داغر: العولمة والنص)، فما تأثير العولمة برأيك على الشعر العربي وقصيدة النثر تحديداً؟
- عندما كنت أعد رسالة الدكتوراه تواصلت مراراً مع محمد أركون من أجل تسليط المزيد من الضوء على فكره. ذكر لي اسم شربل داغر باعتباره أحد طلابه السابقين الذين يثق بهم. وبعد أن اطلعت على ما كتبه داغر، وتناقشت معه مطولاً، حول كتاباته الشعرية، خطر لي أن أبحث في نمط الكتابة الخاص به. فهو، على سبيل المثال يكتب قصيدة واحدة على شكل مسرحية، تصدر في كتاب، فيه الحوار مع الذات والآخر، كما فيه التفكير في اللغة، وفي القصيدة، والبحث في الذات القلقة، وفي الاغتراب، لفتتني، في أكثر من حوار معه، وفي قراءاتي لنصوصه الأدبية كما الفلسفية، تعددية المناهج، وسهولة التنقل بين الأدب والفلسفة والشعر والمسرح والنقد والجماليات. فنشأت فكرة الاشتغال على ما حدث في زمن ما بعد الحداثة، في زمن العولمة، من زحزحة للحدود، وخروج من النمطية، ومن الانغلاق، نحو آفاق أكثر انفتاحاً، وقراءات أكثر تعددية للنص الواحد، أو للإشكالية الواحدة. حاورته حول بداياته، وتكوينه الفكري، كما قمتُ بدرس أكثر من كتاب له، لكي أبين كم أن التصنيفات السابقة للإنتاج الفكري، لم تعد تنطبق على مفكري ما بعد الحداثة، وربطت ذلك بالأثر الذي أحدثته العولمة في تقريب المسافات، وفتح الآفاق، ونزع الحدود، واختراق الحواجز. كلها أمور لم تكن لتحدث من قبل بالقوة التي نشهدها اليوم في عصر العولمة.

ذو صلة