مجلة شهرية - العدد (578)  | نوفمبر 2024 م- جمادى الأولى 1446 هـ

وجبة عائلية

(ياااااااا شباااااااااب)
(الغدااااااااء)
كعادة والدي أثناء وجبة الغداء، لا ينفكّ يصرخ منادياً إخوتي لتناول (وجبة عائلية)، ما يثير حنق والدتي إذ تصيح هي الأخرى به ليصمت قليلاً: (ناديتهم مرة! دعهم يموتون جوعاً، فقد تجاوزوا السن الذي يلزمنا بإجبارهم على تناول وجباتهم وأصبحوا بغالاً).
فيضحك والدي قليلاً، ويصمت لوهلة، ثم يعود ليصرخ مجدداً فتصرخ والدتي بدورها، وألحّ أنا بالدعاء أن يتخلف أحدهم حتى أحصل على كرسيّ الخاص حول الطاولة، فلا أضطر للجلوس على فخذ والدي أو حِجر والدتي.
لا يقضي أفراد عائلتي الكثير من الوقت سوياً، في الواقع كثيراً ما يسافر والدي، فيعتكف كل منهم في غرفته حتى يعود، ليعيد سنّة الغداء العائلي معه.
أعتقد أن إخوتي رغم قلة حديثهم إلا أنهم قد عقدوا اتفاقاً بأن يتأخر كلّ منهم لمدة لا تقل عن خمس دقائق حتى يتسنى لوالديّ أن يستهلكا طاقتيهما في الصراخ على بعضهما البعض فلا يرغبان بالحديث بعد ذلك. لكن هذه الخطة دائماً ما تبوء بالفشل حيث إن الهدف من هذا الغداء العائلي هو معرفة أخبارهم، في الحقيقة، خطتهم هذه تمكّن والدي من التركيز جيداً واستجواب كلّ منهم على حده: كيف هي دراستك؟ كم هو معدلك؟ ما اسم أستاذك؟ لمَ لم تذهب لزيارة جدّتك هذا الأسبوع؟.. والعديد، العديد من الأسئلة التي يتعلق معظمها بالدراسة.
لم أفهم أبداً كره إخوتي لأسئلة والدي المتكررة أو إجباره إياهم على تناول الغداء سوياً، أعتقد أن هذا الطقس هو أكثر طقس عالق في ذاكرة هذه العائلة، ولا زلت أؤمن بأنهم أحبوه كثيراً، فبمجرد أن تنتهي فقرة الاستجواب الدراسي، يتخلل وجبتنا العائلية الكثير من الضحك والقصص البطولية (الخيالية) التي يرويها أخي الأكبر لنا، والتي تشهد والدتي زوراً بأنها شهدتها أيضاً.
أما بالنسبة لي (آخر العنقود) فلا يملك والدي العديد من الأسئلة ليوجهها لي، فلم أذهب إلى المدرسة بعد، ولا أستطيع المشاركة في أحاديثهم أبداً، ما جعلني متشوقاً للذهاب إلى المدرسة حتى يصبح لديّ كرسي حول الطاولة، ونظرة صارمة من والدي، وأسئلة عن معدلي وأساتذتي، وقصص خيالية أرويها على الغداء.
وها أنا ذا أجلس في غرفتي حاملاً تقريري المدرسي مترقباً نداءات والدي التي تبدّلت برسالة واحدة على مجموعة الواتساب (الغداء).
أخذت تقريري وذهبت مسرعاً للجلوس بجانب والدي، فقد تزوّج أخي الكبير وأصبح كرسيّه شاغراً. وضعت تقريري بجانب ملعقته وقلت: (أبي، لقد حصلت على تقدير ممتاز)، لم يرفع والدي نظره عن شاشة الهاتف التي تضيء وجهه وقال: أحسنت.
رفعت عينيّ لوالدتي لعلها توبّخه وتصرخ فيه كما كانت تفعل، لم تنتبه كذلك.
ألقيت نظرة سريعة على جميع من في الطاولة لأجد أوجههم مضيئة وأرواحهم معلقة في هواتفهم. شعرت بأنني لازلت خارج الحسبة، لا مكان لي حول هذه الطاولة، لا أحد في الحقيقة يجلس حولها اليوم. كانت آخر وجبة عائلية تناولناها معاً، منذ 9 سنوات.

ذو صلة