أفضت الحروب الأهلية التي شهدتها الصومال، في نهاية ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضي، وما تبعها من انهيار السلطة المركزية إلى زوال المنظومة التعليمية في البلاد، أسوة ببقية مؤسسات الدولة التي انهارت جراء الاحتراب والاقتتال. ومع استمرار غياب السلطة المركزية والفشل في تحقيق التوافق بين الفرقاء السياسيين، لم يعد بد من قيام المجتمع الأهلي في اللجوء إلى مبادرات تمكنهم من إيجاد حل للفاقد التربوي الذي ألمّ بالأجيال الشابة في البلاد.
قد يصعب على المرء التصور فيما آل إليه أمر التعليم في الصومال، والذي كان كله وبلا استثناء تعليماً حكومياً تديره الدولة ممثلة بوزارة التربية والتعليم، فإذا بانهيارها تنهار المؤسسات التعليمية بلا استثناء، وينشغل الناس بحماية أنفسهم. ولم يأت التفكير بأمر التعليم إلا بعد أن خفّت وتيرة الصراعات الدامية، وظن المبادرون أن عملهم سيكون مؤقتاً، وأن المصالحة تتحقق عما قريب، وستتولى الدولة مهامها بما فيها التعليم كما كانت في السابق، ولكن بعدت عليهم الشقة.
ولكون التعليم الضحية الأولى لانهيار الدولة وتداعياتها، فلم تكن عملية إعادة تشغيل المؤسسات التعليمية سهلة، فما بين افتراق المدرسين والطلاب، ونزوحهم إلى أنحاء البلاد وهجرتهم إلى ما وراء الحدود، وتدمير المدارس والمعاهد وكليات الجامعات، وتحويل بعضها إلى مساكن للنازحين ومستوصفات للجرحى ومقابر للذين قضوا نحبهم جراء الحرب، وبين المجاعة التي ضربت البلاد وأفقرت الأهالي، وإصرار الميليشيات في تجييش صغار السن وتوظيفهم في المجهود الحربي، كان على المبادرين بأمر إعادة العملية التعليمية مواجهة صعوبات جمة تقض مضاجعهم.
ونظراً لغياب تجربة سابقة لتسيير تعليم غير حكومي، فإن معاناة القيادات الأهلية التي تولت هذه المهمة كانت شديدة للغاية، غير أن عزيمتهم وتوكلهم على الله ثم وقوف المنظمات الإنسانية الدولية إلى جانبهم، تكللت جهودهم بالنجاح، فأفضت اجتهادات المجتمع المدني خلال عقدين من الزمن إلى إنشاء عدد من المدارس والمعاهد والجامعات. وبمخاض عسير خرّجت هذه المؤسسات الآلاف من الكوادر التي تعدّ اليوم السواعد التي تقوم عليها الدولة الصومالية بعد المصالحة.
لا شك أن نشر التعليم في البلدان التي اكتوت بنيران الصراعات، يمهد السبيل إلى ارتقاء الوعي المجتمعي، وخلق الوئام والألفة بين الشرائح المختلفة من المجتمع، ويساهم في تحقيق الاستقرار والازدهار، ومواكبة المتغيرات السريعة التي يشهدها العالم والذي تتحكم فيه التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي.
إن الإنجازات التي حققتها مبادرات المجتمع المدني في إحياء العملية التعليمية بعد اندثارها لم تكن نهاية المطاف، بل كانت حلقة مهمة من مسيرة التعليم في تاريخ الصومال الحديث. وقد تلا ذلك تشبيك جهود المجتمع المدني في مجال التعليم بجهــود الدولــة التي أولت عنايـــة خاصـة في أمر التعليم خلال السنوات العشر الماضية، فزادت ميزانية التعليم 10 %، مما أدى إلى زيادة عدد المدارس والمدرسين والطلاب، وتم إقرار تشريعات لتطوير المنظومة التعليمية في البلاد، وإصلاح المؤسسات التي نشأت في ظل غياب الدولة، وتحقيق التنسيق الأمثل بين الدولة والمجتمع المدني في تطوير المنظومة التعليمية، لتستوعب كافة الشرائح في سن التعليم.
وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الدور المحوري للتعليم في تنشيط الحقل الثقافي بميادينه المختلفة، ذلك أن النجاحات التي تحققت في الجانب التعليمي قد انعكست إيجاباً على الجانب الثقافي، وبخاصة في ظل الثورة التكنولوجية التي مكنت الجيل الجديد من الاضطلاع والتفاعل مع الثقافة العالمية. وتجدر الإشارة هنا إلى الدور الذي تلعبه المجلات الثقافية العربية، وعلى رأسها (المجلة العربية) في نشر الوعي وتوثيق التجارب التنموية في العالم العربي. فعبر خمسين عاماً من العطاء المتواصل؛ ظلت المجلة العربية منبراً ثقافياً رائداً يسلط الضوء على قضايا التنمية والتعليم في مختلف أنحاء العالم العربي والإسلامي. وفي عصر الإنترنت والتحول الرقمي، تواصل المجلة دورها الريادي عبر منصاتها الرقمية، مما يتيح لتجارب مثل تجربة التعليم في الصومال أن تصل إلى شريحة أوسع من القراء والمهتمين، وتُلهم مجتمعات أخرى تمر بظروف مماثلة. إن هذا التكامل بين الإعلام الثقافي التقليدي والرقمي يُعد عاملاً أساسياً في توثيق ونشر قصص النجاح والتحديات في مجال التنمية والتعليم في عالمنا العربي.
وبالرغم من الجهود الكبيرة المبذولة في إعادة العملية التعليمية وتطويرها في الصومال؛ فإن الأمر ما زال يحتاج إلى مضاعفة الجهود لتحقيق الغاية المنشودة والمتمثلة بأن ينعم المجتمع بالأمن والاستقرار، وأن تنهض البلاد اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً. وأخيراً وليس آخراً لا يفوتني أن أقدم الشكر والتقدير للمغتربين الصوماليين وإسهاماتهم المبكرة فيما تحقق من إنجازات لمسيرة التعليم الأهلي في الصومال، كما لا يفوتني أن أشكر كافة المانحين الدوليين الذين أسهموا بإسهامات مقدرة في تطوير العملية التعليمية في الصومال.
*وزير التربية والثقافة والتعليم العالي
جمهورية الصومال الفيدرالية