مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

دلالة اللون في الأدب

هناك أواصر متينة في العلاقة بين الكلمة واللون لا تخفى على العين البصيرة، ويعزو علماء السيميولوجيا تلك العلاقة إلى كون الإنسان مخلوقاً ثلاثي الأبعاد، إذ هو جسدٌ مدجَّج بخمس حواس يقوده لاكتشاف تفاصيل الكون، وعقل يُفسِّر تلك العناصر بعد تأمل وتفكير، ومشاعر مُتمرِّدة لا تخضع لسلطة العقل، ولا تلتزم بتفاسيره. وإذ يعتمد النتاج الأدبي بأشكاله المختلفة على تلك الركائز الثلاث، فمنَ الطبيعي أنْ يبذل الأديب جهداً في المواءمة بينها، وذلك نظراً لحاجة العمل الأدبي إلى إعادة بناء المشهد الذي التقطته الحواس، وتلقّفه العقل، وقامتِ المشاعر بتفكيكه إلى جُزيئات لتشكيله مِنْ جديد.
ولعلّ مهمّة الأديب الأساس هي التقاط الأفكار مِنَ الواقع، واختيار الموضوعات التي تهمّ الجيل الجديد، لإعادة طرحها بشكلٍ إبداعي مدهش، تَظهر مِنْ خلالها قُدرات الأدباء في استنباط المشاهد التي تُعبِّر عن قضايا العصر. ويتحقّق ذلك عن طريق اختيار اللغة المُتجدِّدة، والصوت والصورة والألوان الدارجة في السلوك اليومي. ولنجاح الأديب في مهمّته، ولاستيفاء شروط القبول الجماهيري، وتوسيع دائرة انتشار نتاجه الأدبي في محيطه الإقليمي، والانطلاق نحو العالمية بخطىً ثابتة، فلا بدّ له مِنَ التنقيب عن الكلمة المؤثّرة، وتقديم الصورة الطافحة بالألوان الزاهية، وأنْ يطرح الأسئلة المشاغبة. والأديب الحقيقي هو الذي يُشارك الإنسانية أفراحها وأحزانها بمشاعر صادقة وقلب رحيم، وهذا الأديب هو مَنْ يبحث عنه القارئ الجاد المُثابر، ويقطع الفيافي والبحار للوصول إليه.
وفي مجال الشعر بالتحديد، فمنَ المهم اختيار الموسيقى التي تُوقظ مشاعر القارئ، والألوان التي تُحرِّض حواسه بخلطتها السحرية، والصورة التي تُحرِّك في عقله كلّ إشارات الاستفهام والتعجّب، وعلى الشاعر أيضاً أنْ يستخدم جميع الأدوات الأخرى، والمواد اللازمة لبناء القصيدة التي تواكب نهضة المجتمع وذائقة الجيل. وفي هذا الشأن، يرى فريق مِنَ النُقّاد: أنَّ حركة الحداثة ليست مجرّد ثورة على بناء القصيدة، وإنما هي ثورة على عناصر القصيدة كلّها، شريطة الحفاظ على سلامة اللغة، وسلاسة الموسيقى، ونضوج الفكرة، ونقاوة التراث، وخصوصية المجتمع.
ولا شكّ أنَّ لكلِّ أديب ألوانه المُفضَّلة، وعادة ما تكون ذات علاقة بعالمه الداخلي، والتي شكَّلتها مشاعره خلال مسيرة حياته، فأصبح لا يرى أية أهمية سوى لتلك الألوان التي تبدو في صورة العالم مِنْ حوله، ولذا يكون اللون في الأدب مُختلفاً عمّا هو في الواقع. ويوضِّح المفكِّر والناقد النمساوي (فيشر) سِرّ العلاقة بين اللون والكلمة، بقوله: حيث إنَّ (الفن بديل للحياة، ووسيلة لإيجاد التوازن بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه..). ومِنْ هنا يُمكن القول: بأنّ اللون ضرورة حتمية، تُمكِّن الإنسان أنْ يفهم العالم ويفُسِّره.
أمّا الشاعر الفرنسي (أوجين غيوفيك)، فيعزو وجود هذا السِرّ في الشعر على وجه الخصوص، (كون القصيدة تختصر عبر اختزالها التعبيري لكثافة العالم، وإيقاعاته الجوهرية، والشِعر هو ظلّ الإحساس، وعرس الكلام والصمت، ووسيلة لمحاورة العالم، لأنّ الشعر ليس هروباً مِنَ العالم، بل هو اكتشاف له يساعد على تجاوز الأوقات الصعبة).
ويتّضح مِنْ كلِّ ما سبق، أنّ العلاقة بين اللون والكلمة، هي ذات العلاقة بين العقل والمشاعر، وبين الفعل والنتيجة، وما دور الجسد والحواس سوى ناقلات لركام الأحداث والأخبار والمشاهد، ورصد الظواهر الإنسانية والطبيعية حول العالم، وجمعها وإعادة ترتيبها مِن جديد، لتشكيل وعي جديد يُحافظ على ثوابت المجتمعات وقِيَمها وتقاليدها وموروثها، ويُعزِّز الالتزام بشروط التنوّع الحضاري.

ذو صلة