تجولت في قريتنا وكأنني أتذوقها.
وأمي القرية -كما وصفها ابنها البار سعيد الدحية- مليئة بالمشاعر والدفء، ففي جدرانها ما يشبه مشب النار لعاطفتك. إن رأيت قريتنا ستجد أن ملامحها امرأة لا تحب التطور، في بيوتها القديمة ما يشبه الفستان المكلف. لو تخيلتها لرأيت امرأة تجلس على أطراف أصابعها وتعجن أبناءها كأرغفةٍ. ريحهم وشكلهم ينتمي للماضي، فنحن السنبلات السبع التي زُرِعت في أراضيها، نحن قطاف مزارعها وصنع يديها. كنت متأسفاً على البيوت القديمة التي أزلناها ومحونا ذكرياتها. كانت بمثابة عقوق لماضي آبائنا. كنا كمن يهدم غرفة أمه ويرمي بفراشها وسجادتها وشنطتها الحديدية التي فيها كرتها وحوكتها ومكحلتها وكيس بنٍ جاءها من أحد ضيوفها، ليضع بدلاً منها مكاناً لألعاب أبنائه.
مررت بالبيوت القديمة فيها وكأن كل خطوة أخطوها تنقلني إلى ماضٍ لم أعشه أو عشت بعضه. حينما تكون في حضرة الماضي قُبيل المغرب، تشعر وكأن الهواء يحمل نغمة غريبة، كأن المكان يُحدثك بلغة لم تسمعها من قبل. كانت أصوات حفيف الأشجار المختبئة وراء شجر التين تشبه الهمس، وكأنها تتحدث معك عن دخول فصل الشتاء في الماضي، وتشرح لك تفاصيل باردة لا تفهمها ورائحة العشب فيها لازالت تحمل نفس رائحة الأمطار التي استسقوها ذات قحط. هذه الدور التي تعاني الهرم والشيخوخة وهشاشة الجدران أنهكها الحنين وفقد الأحبة.. حينما تأملت تجاعيد جدرانها سمعتها تخبرنا بأشياء لا نعرفها ولكننا بشعور الانتماء لمن عاش بها نستوعبها ونشعر بشيء منها. الجدران لم تكن جامدة حقيقة كما يبدو، فكل واحد فيها له كلمات يحدثنا بها، رص لنا جُملها على هيئة حجارة، والبيت يحمل على أكتاف زواياه قصة مكتوبة في طين بنيانه. بعض البيوت رغم انهيار جزء منها بفعل الزمن أو بسبب انكسار عاطفة إلا أنها لازالت شامخة بما يكفي لتحكي لنا عن شموخ ساكنيها. وفي نوافذها إطلالة تطل على الماضي.
فالبيت القديم راوي قصص يخبرنا أنهم عاشوا هنا.. والمقبرة كذلك تخبرنا بأنهم كانوا يعيشون هنا.. والمسجد القديم المجاور لقبورهم كذلك.
يمكنك أن تذهب بخيال عاطفتك وتتخيلها قبل أن نبنيها، فلازال صوت أقدام جدنا الأول حين وطأت قدماه المكان وهو يحمل حجراً يبني به أول بيوتنا صادحاً في المكان.
لا زال بالإمكان سماع صوتهم وهم يتحدثون تحت ضوء فوانيسهم أو نار مَلَّتِهم بعد الغروب. والملة في لهجتنا هي المكان الذي توضع النار بين حجارته. حينما نحاول الاختباء في دهاليز الماضي لنرى من خلف نافذة تطل عليهم كيف كانوا يعيشون فنحن لا نستطيع أن نتخيل آباءنا صغاراً، فنحن في داخلنا نحس بأنهم وجدوا كباراً. ولكننا نحس بأعمارهم في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من العمر وهم يحاولون أن يثبتوا أنهم رجال، نستطيع أن نتخيل أقدامهم وهم مسرعون يتسابقون لرفع أذان المغرب، أو فوق الأسطح الطينية لردم حفرة سببها تجمع المطر، نسمع دوي صرخاتهم في البئر القديمة ليسمعوا ارتداد صدى أصواتهم، أو وهم يحملون جرة الماء منها. تسمع لهثتهم وهم منكبون على ظهورهم بعد أن أثقلت على كاهلهم تلك المياه وهم يصعدون بها ذلك الجبل الذي يسمونه الصاعدة.
أصبحت البئر تروي قصصاً بعد أن كانت تروي ضمأ، وحينما نتحدث عن القصص فلم يبقَ لنا هنا إلا أبونا أحمد وأمنا سعدية التي أخذ وجهها من تشققات جدرانها وتجاعيدها، هما الحبلان المتبقيان اللذان يربطاننا بجيل الماضي، ففي القرية لنا والد ووالدة، وكثير من الآباء والأمهات الذين حملوا عبئنا. وإن أردت أن أحدثك عن أمهاتنا وعظمتهم فأحضر معك ثلاجة قهوة لأحدثك عن أمي كمثال لهن.
في هذه القرية الكل لماضيه رائحة تفوح في الذاكرة، فعبدالله البدوي مثلاً لا يقل عن بدوي الجبل بالنسبة لنا. لم يكن شاعراً ولكنه كان شعور يشبه شعر بدوي الجبل. كلما رأينا مركاه في المسجد ثار الشعور داخلنا.
والمسجد كل زاوية فيه لها حضورها المهيب، ونفحتها الإيمانية الخاصة. حينما تجلس بعد ركعتين لتُسبح تشعر بأنه امتداد لتسابيحهم، تشعر بأنه مازالت تسابيحهم وبركة صلاتهم تضيء الشعور. يبدو أن استغفارهم كان صادقاً لتلك الدرجة التي تجعلنا نتذكرهم ونستغفر لهم ونخطهم في مقال.
حينما نخرج من المسجد ونمر بجانب قبورهم ينتابنا شعور بأنها عروش توثق عظمتهم. ففي مقبرة قريتنا ليست سوى أجسادهم التي قبرت. أما ما تبقى من عزتهم وشموخهم فما زال حياً بيننا، بل ويربينا.