مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

الرحبانية.. بصمة على جدار الأغنية العربية

نشأ الأخوان رحباني (عاصي ومنصور)، في جو أسري قاسٍ ومتزمت نوعاً ما، فقد كان والدهما يخاف اختلاطهما بالآخرين، ويقوم بعزلهما في (علّية) طيلة النهار، قرب مقهى (فوّار إنطلياس) الذي كان يديره آنذاك.
كان عاصي منذ صغره مولعاً بالخيال والابتكار والكتابة، وكان حريصاً على أناقته اللافتة دوماً، وعندما كان يُسأَل عن طموحه في المستقبل، كان يجيب على الفور: بأنه سيصبح كوالده، فالوالد (حنا إلياس الرحباني) بدأ حياته يعمل في المجوهرات (جواهرجياً)، قبل أن يدير مقهى فوار إنطلياس. أما منصور فقد كان يجيب عندما يُسأَل نفس السؤال: تمساح... أو قط... أو جرذ أو أي إجابة غير متوقعة وغير منطقية، فهو كان مشاكساً على عكس أخيه عاصي.
من التوقعات ما صدق
فقد كانت التوقعات تشير إلى أن عاصي سيصبح شاعراً أو فناناً، ومنصور (مشكلجي)، فقد كانت سيرته الذاتية تنم عن قاطع طريق لا أكثر. كان عاصي مجتهداً في دروسه، بينما كان منصور مهملاً، فقد كان الأخير يهرب من المدرسة ويلجأ إلى ظل شجرة، يجلس متأملاً السماء والطير سارحاً محلقاً بخياله بعيداً، ينتظر عودة الطلبة من المدرسة ليعود معهم إلى البيت، ولم يكن عاصي ليخبر والده بذلك حفاظاً على صلة الأخوة بينه وبين منصور.
كان والدهما بالرغم من قسوته حنوناً في بعض الأحيان، فقد كان يجلس في المساء ويعزف لهما على (البزق)، ويغني بعض أغاني التراث القديمة، وعندها بدأ عاصي يتعلم العزف على البزق سراً، بالرغم من أن والده كان عندما يراه يعزف يقوم بزجره.
رحلة تعلم الموسيقى
كان قدوم الأب بولس الأشقر إلى دير (مار إلياس) في إنطلياس، حدثاً مهماً غيّر حياتهما، فقد انضم منصور إلى جوقة تعليم الترانيم الدينية، فيما تعذّر دخول عاصي بسبب صوته، وفي أحد الأيام بينما كان الأب بولس يشرح لهم نظرية بُعد موسيقي (Tetracorde)، عجز الجميع عن فهمها واستيعابها، تدخّل عاصي الذي كان يستمع إليهم من النافذة، وقال: أنا أشرحها لهم، فقال له الأب بولس: إذا استطعت فإنك ستدخل الجوقة، وبالفعل دخل الجوقة وتعلم وبقي فيها هو ومنصور.
بدأ الأخوان بتعلم الموسيقى في الدير، حيث وضعوا تحت تصرفهما آلتي (بيانو) و(أورغ)، كانا يجلسان طيلة النهار في الكنيسة يعزفان، وقاما بعد ذلك بتلحين مسرحية اسمها (النعمان الثالث) سمعاها من الأستاذ، فقاما بنظمها شعراً ولحناها ومثّلاها.
شغف عاصي
قام عاصي بإنشاء مجلة أسبوعية، كان يكتبها بنفسه وفي نهاية الأسبوع يعرضها على رفاقه، وكانت تحوي أسبوعياً رواية وقصة قصيرة وشعراً ومقالات نقد، وكان يخترع شخصيات وأسماء وإمضاءات وهمية كي يملأ الدفتر، وأطلق عليها اسم (الحرشاية). وتم فيما بعد إنشاء نادٍ في إنطلياس، وكان الأخوان رحباني يقدمان فيه الحفلات المجانية، ومن أولى اللوحات التي قاما بتلحينها كانت المسرحية الغنائية (جسر القمر) و(تاجر حرب).
تعرضهما للنقد
لم يتقبل البعض ما قاما به، فقد قال عنهما بعض نقاد الموسيقى: بأن موسيقاهما غريبة، والبعض اتهمهما بسرقة ألحان الأب بولس. درس الأخوان رحباني الموسيقى مدة خمسة عشر عاماً، وقد كان عاصي متشدداً في أمور كثيرة، كالغناء في الأعراس، فقد كان يرفض الفكرة تماماً، والغناء لشخص معين، أو مديح شخص.
غنّيا فقط للشعوب والقضايا، وكان عاصي يردد دوماً عبارته المشهورة (الفن ابن الوعي وابن الصعوبة). حاول البعض فصلهما، لكن كل المحاولات باءت بالفشل، فقد كان التناغم بينهما واضحاً وكبيراً، لدرجة أن العمل كان مشتركاً وغير مقسم بينهما، فبمجرد توقيعهما على عمل بـ(الأخوين رحباني) كان كفيلاً بأن يفهم الجميع أنه عمل مشترك، فقد كان من الصعب فصل الوردة عن عطرها.
الإبداع الرحباني
تجلى إبداعهما في مجالات مختلفة، أبرزها المسرحية الغنائية، وقد ساعد في نجاحها جذورهم الشعبية، وإحياؤهم للتراث والفلكلور اللبناني، والإضافات الأخرى التي عرفوا بها، (كالموشحات) ومنها بعض الموشحات التي غنتها فيروز كموشح (لمّا بدا يتثنّى) و(والذي أسكر)، وفيما بعد كان اهتمامهما بالقصيدة العربية الكلاسيكية، ومن أوائل هذه القصائد: (لملمت ذكرى لقاء الأمس بالهدب) و(أنا ياعصفورة الشجن)، وقد لاقت تلك القصائد نجاحاً كبيراً.
انتصار الحرية
استطاعا معاً كثنائي رائع أن يخلقا للحرية لغة خاصة بهما، بين شاعرية الصمت وإيقاع الألوان، أقاما منطقة خاصة لهما مشبعة بالوجدان، بعيداً عن إرهاصات السياسة والدين والقبيلة وو....
قدّما الآلاف من الأغنيات الخالدة، والمسرحيات التي تناولتها عشرات الأطروحات الجامعية في لبنان وخارجه. وتابع منصور رحلة الإبداع بعد وفاة عاصي، بالنيابة عن الأخوين رحباني.
فيروز والرحابنة
كانت الصدفة المحضة هي التي جمعت فيروز وعاصي، حيث تقابلا لأول مرة في الإذاعة اللبنانية، وقتها كان عاصي ملحناً مبتدئاً يعزف على الكمان، وهي كانت المطربة المعروفة.
استمتع عاصي في اللقاء بصوت فيروز، وجاء اللقاء الثاني بينهما بعدما طلب (حليم الرومي) رئيس قسم الموسيقى في الإذاعة آنذاك من عاصي تلحين عدة أغانٍ لفيروز، ومع مرور الوقت توطدت العلاقة بينهما وتحولت إلى حب متبادل.
تزوجا عام 1955 وأنجبا أربعة أولاد، زياد وهالي وليال وريما، وكان ذلك الزواج فاتحة خير لكليهما، وكانت أول أغنية رحبانية غنتها فيروز هي (غروب)، وهي قصيدة للشاعر (قبلان مكرزل)، وتلتها عدة أغانٍ مميزة أذيعت على عدة إذاعات لبنانية وسورية. بعد ذلك النجاح الباهر تم تأسيس المؤسسة الرحبانية الفيروزية لإنتاج الأفلام السينمائية، لتكون شاهداً جديداً على نجاحاتهما معاً.
نهاية موجعة
أصيب عاصي عام 1972 بنزيف دماغي، ولم يقوَ على العمل، فتوقف عن التلحين والعمل، فأكمل ابنه زياد المشوار من بعده، ولحن لوالدته عدة أغانٍ كان أولها (سألوني الناس عنك ياحبيبي)، ومن الأغاني التي لحنها زياد أيضاً: أنا عندي حنين، البوسطة، سلملي عليه، عودك رنان، قديش كان فيه ناس، ضاق خلقي ياصبي.. ومقدمة مسرحية ميس الريم.
لم تدم توليفة عاصي وفيروز، فقد بدأت الخلافات والمشاكل تتسع دائرتها بينهما، إلى أن تم الانفصال عام 1978 وأكمل عاصي حياته مريضاً يرعاه أقاربه حتى توفي عام 1986. لكن رغم انفصالهما فقد كان خبر وفاة عاصي صاعقاً لفيروز، ففي إحدى حفلاتها سالت الدموع منها بغزارة وهي تغني مقطعاً من أغنية (سألوني الناس) عندما غنّت (بيعز عليي غني ياحبيبي ولأول مرة ما بنكون سوا).
ومازالت أيقونة الغناء العربي (جارة القمر)، خالدة بأغانيها وصوتها الذي يزين صباحاتنا وكل الأوقات، منحها الله الصحة والعافية.
جدي وندبة قلبي
صغيراً ملتصقاً به أحاول أن أحظى بكامل وقتي معه، أتعلم منه تضاريس الأرض وأسرارها، يهمس إليها أن جودي بثمارك لصغاري، فتفعل.
أحفر كلماته، ملامح وجهه تظهر جلية تضاريس الزمن عليه، يمتلئ بالحياة والأمل ، أرجو أن يمنحني القدر مزيداً من الوقت معه.
جدي الذي عشق الأرض ومنحها كل وقته فمنحته الحياة وذاب فيها.
كنت الصغير وسط أحفاد كثر يتهافتن للذهاب معه إلى موعد الحصاد الكبير، حيث ينمو المحصول سريعاً، يجتمع أفراد العائلة، يوم حافل للصغار لمعة عيونهم تُوحي بذلك.
مبكراً ينهضون، على طول الطريق تسمع أهازيج شتى..
(كلُه على الله.. على الله، القمح أهو طاب.. على الله، طلب الحصاد.. على الله، حصاده أتأخر.. على الله، والسبل أتكسر.. على الله، بخت العيال.. على الله، الصيفه حلال.. على الله).
لكل منا دوره، من يحمل الماء والطعام ومن يسارع ليساعد في جمع السنابل وتجهيزها.
أنا هنا للمرة الأولى أرى تلك الآلة الغريبة (الدرّاسة) التي نضع فيها السنابل لتخرج لنا حباً ذهبياً.
أقف مندهشاً أُربت على كتف الأرض وأتمتم ببعض كلمات.
تتوالى الأيام الجيدة بعد موسم حصاد القمح، فالذهاب إلى ماكينة الطحين يوم مميز أيضاً، مكان ضخم يحتوي على ماكينات عدة، أن ترى بعينيك كيف تتحول الحبوب الذهبية إلى دقيق أبيض زاكٍ، أحببت كثيراً الذهاب مع أمي وعماتي لا من أجل الكثير من الحلوى فقط بعد يوم شاق وطويل؛ ولكن من أجل رؤية تلك الآلات الضخمة وطريقة عملها ورائحة القمح ويالها من رائحة، بياض القمح أصبح يلون ملابسنا جميعاً.
يأتي يوم (الخبيز) صنع الخبز المنزلي في منزل جدتي وطقوسه، بداية من وضع الدقيق والماء بنسب محفوظة وخلطه جيداً وتركه ليختمر ويزداد حجمه، يلتف كل أبناء العائلة حول الفرن البلدي (الصاجة)، وهو مصنوع من الطوب والطين، ويشتعل بالحطب والقش (أعواد الذرة بعدما يجف)، يتسابق الصغار أيهم يجمع أكثر، رائحة الخبز تغزو المنزل الكبير، آخُذ رغيفاً أضع فيه السكر أرجعه مرة أخرى في الفرن للتحميص أتناوله ساخناً والسكر يذوب في فمي.
أتسابق مع الصغار في فناء الجد الكبير أَسقطُ هنا والدماء تتساقط من يدي، يهرع جدى بي إلى مستوصف القرية الصغير، أعود مُحملاً بالكثير من الحلوى وندبة صغيرة في ذراعي الأيسر.
ذات مساء أجد الطبيب مهرولاً في المنزل، يبتعد الأطفال بأوامر آبائهم بعيداً، أظل أراقب غير مبال للأوامر، أجد جدي مغطى تماماً بالبياض، تزداد الأوامر بالتوقف عن النحيب والصراخ ، أجد مزيداً من الندبات في جسدي الصغير لكن ندبة بارزة احتلت قلبي تماماً.

ذو صلة