عجوز شمطاء ترتدي رداء الصلاة جالسة على سجادتها وبين أصابعها تدور مسبحة عتيقة بحركة سريعة تتسابق مع حركة شفتيها اليابسة التي تصدر صوت بسبسة ممزوجة بنفثات تشبه فحيح الأفعى التي بداخلها، كانت تحجب ذلك السواد الذي حرق جسدها برداء الصلاة البالي والذي لم تغسله منذ أعوام، وتخفي خطيئة أقدامها تحت سجادة الصلاة، وتعطر نجاسة كفّيها بتلك المسبحة، وتكفّر فواحش شفتيها بكلمات خافتة، وكأنما تتقن تنجيس كل شيء طاهر! إلا أنها وبالرغم من ذلك لم تستطع أن تخفي تجاعيد وجهها التي شهدت على كل ذنب وفضيحة! نهضت بعد دقائق لتفتح الباب بعد ما سمعت أحدهم يطرقه، مشت بتثاقل لتجد خلفه فتاة نحيلة برداء أزرق دخلت فوراً دون أن تنتظر إذناً أو ترحيباً لتقول بسرعة:
- أخبريني ما الذي يحدث الآن؟!
هزت العجوز رأسها متسائلة:
- ماذا تعنين؟ ماذا هناك؟
التفتت الفتاة بغضب قائلة:
- لا داعي للتظاهر فلا أحد هنا سواي! أخبريني ما الذي تريدينه الآن؟
أغلقت الباب ونظرت نحو الفتاة بهدوء وبين شفتيها ابتسامة صفراء لم تستطع تلك الأذكار إخفاءها، لترد بعدها بسخرية قائلة:
- أتحاولين مساومتي أم أنك تعلنين استسلامك لي؟!
- لا هذه ولا تلك! أريد فقط أن أفهم ماذا تريدين وما الذي تسعين له؟!
- أريدك أن تتعلمي بأنني أنا ملجأك الوحيد لا هو! وأن من عصيتني لأجله ليس بقادر على فعل شيء أمامي!
ضحكت الفتاة بسخرية قائلة:
- تريدين إذلالي فقط لا أكثر! أتسخرين منه لأنه لم يرغب بأذيتك واكتفى بالصمت لأجلي!
- لم يستطع أذيتي ولن يستطيع! وقريباً ستستيقظين على هذه الحقيقة وتعودين لي نادمة!
- أنا لا أفهم سبب إصرارك على عودتي! أحقاً ترغبين بعودتي إلى هذه الدرجة؟!
توجهت العجوز نحو المطبخ وأخرجت من الثلاجة علبة عصير قد أعادت تعبئتها بالمياه لتشرب من فوهتها قليلاً ثم تعيدها لمكانها، مسحت فمها برداء الصلاة وعادت للحديث وكأنما أدركت للتو وجود ابنتها أمامها:
- لِمَ لَمْ تحضري معك شيئاً يؤكل، أم أن ذلك البخيل يمنعك من إطعام أمك؟!
- ما الذي تقولينه أنتِ! وبأي دمٍ بارد تتحدثين! لقد خسر عمله اليوم بسببك! بسبب أكاذيبك وحِيَلك! مجنونة أنت أم ماذا؟!
رفعت بصرها نحوها بغضب لترد صائحة:
- هذه المجنونة هي من أنجبتك وأطعمتك وكست جسدك هذا، لكنها نسيت أن تُرَبّيك!
- ومن أين؟! من أين أطعمتني ومن أين ستربيني؟!
- ماذا تقولين؟!
- أخبرني من أين؟! أو دعيني أنا أخبرك! فجسدي النحيل هذا الذي سترته بالقماش قد نهشته ألسنة الناس منذ طفولته بسببك!
صمت لثوان لم يكسره سوى صوت أنفاس متقطعة، فركت الفتاة وجهها بكفيها والتفتت مجدداً لتقول:
- أظننتِ أن طعامك الذي اشتريتيه بجسدك كان حقاً طعاماً؟! لقد كان سمُّاً يقتلني في كل مرة أراك فيها مع أحدهم لا أعرفه ولا يعرفني! أنا لم أعرف ما هو مذاق الطعام إلا بعد رحيلي عنك! لكنك تأبين الرحيل عني! فأخبريني الآن ما الذي تريدينه مني؟!
عاد الصمت مجدداً ولكن لمدة أطول قليلاً هذه المرة، لترد العجوز بعدها قائلة:
- حسناً إذاً سوف أخبرك، ذلك السمّ الذي لم يعجبك مذاقه هو من منحك الحياة حتى هذه اللحظة ولذلك أنتِ مجبرة على رد الجميل لي!
- ما الذي تعنينه؟!
- يجب عليكِ إطعامي الآن.
- وكيف ذلك؟ بعودتي لمنزلك؟!
- نعم! أحتاج إلى جسدك ليطعمني فجسدي لم يعد كافياً لهم!
كانت الدموع قد هاجمت عينيها فجأة لتسبق ردها المكتوم:
- أهذه التربية التي كنت تتحدثين عنها؟! أشكرك لأنك قد نسيتها! أنا لست أنتِ ولن أكون أنتِ ما حييت!
مشت بسرعة نحو الباب لتصيح بها العجوز قبل أن ترحل قائلة:
- ردي لي الجميل! أنتِ مجبرة على ذلك! شئتِ أم أبيتِ! أحببتني أو كرهتني! أنتِ مجبرة أن ترديه لي!
توقفت الفتاة قليلاً ثم التفتت لتقول قبل أن تختفي خلف ذلك الباب:
- أرجعيه لعمله وسوف نطعمك! دعينا وشأننا وستحصلين على ما تريدين!
أغلقت الباب خلفها بقوة، عادت العجوز للمطبخ لتشرب المزيد من الماء البارد بعد حربها الباردة تلك قبل أن تجلس على سجادتها، ثوانٍ وعاد صوت فحيحها مجدداً.