مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

عثمان الصالح.. محطات في رؤيته التعليمية

سهم بن ضاوي الدعجاني: الرياض

 

ولد عثمان الناصر الصالح في فترة عصيبة على أهالي المجمعة بسبب قسوة الحياة والعوز الشديد، وكان والده يتجول بين المدن بهدف التجارة وعند عودته في إحدى المرات إلى المجمعة تزوج أمه من أسرة آل مدلج، لكن والده لم يعش طويلاً بعد ذلك، فعاش في كنف أمه الكفيفة التي تعلَّم منها كيف ينير بالعلم والتربية والمحبة الطريق لأجيال كثيرة تعاقبوا عليه خلال 45 عاماً قضاها معلماً ووكيلاً ومديراً في مدرسته الأولى بالمجمعة ثم معهد الأنجال وأخيراً في معهد العاصمة النموذجي. والأستاذ الذي يصف نفسه بأنه أحد المدرسين القدامى، ولد سنة 1335هـ في مدينة (المجمعة)، عاصمة إقليم سدير التابع لمنطقة الرياض، وهو أحد رجالات القرن الرابع عشر الهجري، وأحد الأعلام التربوية السعودية، وقد حظي بثقة ولاة الأمر في تربية وتعليم أبنائهم، ومنحه الصلاحيات المطلقة في التعامل معهم بالأسلوب التربوي الذي يراه وفقاً لطريقته في الإدارة التربوية التي جمعت بين (الحزم) و(الشدة) دون تفريق بين أبناء الأمراء والمواطنين، حتى أصبحت تلك الطريقة والسمة الحازمة علامة فارقة في مدرسة الأستاذ عثمان عند القريب والبعيد، وبعد أن قلد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -أيده الله- الأستاذ عثمان الصالح وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى في احتفال كبير أقيم في قصر الثقافة بحي السفارات بالرياض عام 1421هـ عندما لفت الملك سلمان إلى أنه وإن لم يكن أحد تلاميذ الأستاذ فإن أبناءه فهد وسلطان وأحمد وعبدالعزيز كانوا من تلاميذه، كما قال -أيده الله-: (أذكر تماماً تفقده أحوالهم ومعاملته لهم كأب وكمرب، ولم يكن فقط في المعهد بل حتى في البيت عندما يأتي لزيارتي فكان يتفقدهم كأب لهم وهذا نهجه مع أبنائه وتلاميذه).
الأستاذ عثمان يشترك مع (سقراط) الفيلسوف والمعلم اليوناني في ضرورة تلقي المرأة برامج التربية كالرجل، كما يتوافق مع الفيلسوف اليوناني المعروف أرسطو في ضرورة دعم المناهج والكتب الدراسية بالتجارب والوسائل التعليمية والرحلات، لقد أسس وافتتح أول مدرسة أهلية في المجمعة وكان لها مالكاً ومديراً ومدرساً، ثم وكيلاً لأول مدرسة حكومية في المجمعة أيضاً، ثم معلماً خاصاً لأبناء الأمير عبدالله بن عبدالرحمن آل سعود، بعد ذلك انتقل للعمل في مدرسة أنجال الملك سعود بن عبدالعزيز الذي أصبح فيما بعد معهد العاصمة النموذجي، الذي يعد من الرواد في العمل المؤسسي في بلادنا، وقد ظهرت مقدرته الإدارية والتربوية في ذلك المعهد.

خطاب الملك سلمان للأستاذ عثمان الصالح- 27/9/1414 هـ

توجيه الملك فيصل
بعد أن تولى الملك فيصل بن عبدالعزيز -يرحمه الله- الحكم رأى أنه من المناسب أن يتغير اسم معهد (الأنجال) إلى اسم جديد فكان عندما يمر بالمعهد في طريقه للقصر يقول لمرافقيه: (قولوا لعثمان يغير الاسم) فيقول الأستاذ عثمان توضيحاً لهذا الأمر: (سألت وزارة المعارف المشورة في ذلك فلم أجد جواباً شافياً) وبعد أربعة أيام أصبح موقفه محرجاً أمام الملك، لكنه كعادته حسم الأمر وأسمى المعهد (معهد العاصمة النموذجي) الموجود حالياً، بعد أن كتب لوحة بذلك وعلقها على واجهة المعهد وسرّ بها الفيصل. وتتوالى زيارات الوفود الرسمية للمعهد فقد زاره كل من جمال عبدالناصر رئيس مصر السابق، وشكري القوتلي، وهيلا سلاسي، ولال نهرو.

الإدارة المدرسية في فكره
يرى رجال التعليم المختصون أنه في أسلوبه الإداري التعليمي نموذج يحتذى، فهو أسلوب يجمع بين اللين والقوة في غير ضعف ولا عنف، بل كله عدل وحكمة ممزوجة بالهيبة والاحترام لشخصيته القوية الحازمة.



التطوير في فكر الأستاذ
(تطوير) العملية التعليمية في حياة الأستاذ عثمان، ليس هاجساً فحسب، بل منهج إداري في كل مراحل حياته العملية، لكنه تطوير هادئ وعقلاني لا يصطدم بالواقع ويحترم التدرج في (التغيير)، يقول الأستاذ بعد أن قال له الملك سعود رحمه الله: (يا ابني أريد أن تتولى أمر مدرسة أولادي، وأريدها مدرسة على الطراز الحديث) وأمام هذه الثقة الملكية يتضح ملمح من ملامح (التطوير) و(التجديد) لدى الأستاذ عندما فعل:
- دخل الغرفة/ المدرسة وسلم على المعلم وأخبره بالخبر وقال له: إن طاعة ولاة الأمر واجبة، وما لديك هنا أو في بيتك من عهد فهي لك وأنا لك ضامن.
- منح الطلاب إجازة لمدة خمسة أيام، وشكل ورشة عمل وأحضر نجارين لإعداد السبورات الجدارية والمتحركة وأخرى خاصة للطلاب، وعمل اختبار تحديد مستوى للطلاب، قرر أن يبدأ الطلاب جميعهم دون استثناء من السنة الأولى، وقرر أن يبدأ اليوم الدراسي بالاصطفاف الصباحي.
- استمر الأستاذ في فكره التطويري لهذه المدرسة تلبية لتوجيه الملك سعود -يرحمه الله- من خلال الإعداد لمرحلة (معهد الأنجال).
- طلب من الملك مبنى جديداً ومتسعاً، وسعى إلى توفير طاقم تدريس متكامل على مستوى عال من الإعداد العلمي والمهني وجلب مطبوعات وأثاثاً مدرسياً ووسائل تعليمية من مصر، كما اهتم كثيراً بحصة الرياضة، ونظم العديد من الحفلات والرحلات والزيارات (النشاط المدرسي) وقرر تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، وأنشأ جمعية الكشافة في المعهد، وخصص مكتبة للطلاب.

تعليم المرأة لديه
ترجم الأستاذ عثمان رغبة الملك سعود -يرحمه الله- عندما قال له: (مثل ما نحن نجتهد مع البنين في إيجاد فرص التعليم لهم، أما من سبيل لإلحاق البنات بالركب؟) ثم بدأ الأستاذ بدراسة هذا المشروع ورفع مرئياته لجلالة الملك، فكان ميلاد (معهد الكريمات).
المقررات والمناهج التي كانت الطالبات يدرسنها هي المقررات ذاتها التي يدرسها الأولاد مع إضافة مقرر (التدبير المنزلي) وهناك اصطفاف صباحي لدى الطالبات والزي كان موحداً لهن، كما يمارسن صحافة وإذاعة ومسابقات وتربية فنية وتربية بدنية تناسب تكوينهن الجسدي.

فلسفته في التحفيز والتشجيع لطلابه
علاقة الأستاذ عثمان بالتشجيع وثقافة التكريم على كافة المستويات، علاقة أصيلة ومتطورة، فكثير من تلاميذه يؤكدون ذلك، بل يذكرون من مناقب الأستاذ أنه يضع لوحة أمام مكتبه عندما كان مديراً لمعهد العاصمة النموذجي لنشر (إنجازات) و(إبداعات) الطلاب على تلك اللوحة أمام مكتبه وتتحول مع الوقت إلى محور حديث مع كل زوار المعهد من الأمراء ومسؤولي الدولة وزوار المعهد من الرؤساء والزعماء والعلماء من مختلف دول العالم، مما جعل طلاب المعهد يتنافسون ليصل إبداعهم إلى تلك اللوحة سواء كانت لوحة فنية أو قصيدة شعرية.. إلخ.



(العدل) تاج الأستاذ عثمان
وهذا ما تميز به الأستاذ عثمان -يرحمه الله- في عمله معلماً ومديراً، فقد شهد له بالحزم دون تفريق بين تلاميذه، وكان له مقولته الشهيرة: (يبقى الأمير أميراً حتى يدخل باحة المدرسة).

لماذا لم يكتب سيرته الذاتية؟
يقول الأستاذ جواباً عن هذا السؤال: لم يخطر على بالي سرد هذه المذكرات وليس عندي مذكرات. ولكن مجلة (المعرفة) كانت محضن تلك الذكريات، حيث صدر العدد الأول منها في شعبان 1379هـ، عندما كان الملك فهد بن عبدالعزيز -يرحمه الله- وزير المعارف الأول، ثم توقفت وعادت في عام 1417هـ، عندما كان الدكتور محمد الأحمد الرشيد وزير المعارف، وضم العدد الأول الصادر في رجب 1417هـ، الحلقة الأولى من مذكرات عثمان الصالح تحت عنوان (معلم بلا عصا) نلاحظ في مقدمة مجلة المعرفة أعلاه أنها أطلقت على الأستاذ عثمان الصالح لقب الشيخ والمربي، وهو كذلك، لكنني سأطلق عليه -يرحمه الله- لقب (الأستاذ) اقتداءً بسيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز عندما خاطب الأستاذ عثمان في عام 1414هـ بخطاب وجدته معلقاً في دارة الأستاذ عثمان في حي المؤتمرات بالرياض إبان تولي خادم الحرمين إمارة منطقة الرياض، فقد خاطبه بقوله: (سعادة الأستاذ الأخ/ عثمان الصالح سلمه الله). نلاحظ أن الملك سلمان -أيده الله- خاطب عثمان الصالح -يرحمه الله- بلقب الأستاذ، بل عندما وجَّه بإطلاق اسمه على أحد شوارع العاصمة أسمته أمانة منطقة الرياض شارع الأستاذ عثمان الصالح، ليبقى شاهداً حضارياً على مسيرة الأستاذ الذي توفي قبل 19 عاماً، فقد كان -يرحمه الله- معلماً من معالم الرياض التعليمية.

ذو صلة