مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

التحول السعودي الكبير نحو اقتصاد المعرفة

تشهد المملكة العربية السعودية تحولاً اقتصادياً هائلاً نحو اقتصاد المعرفة، حيث تسعى بقوة إلى تحقيق التنويع في اقتصادها، والابتعاد عن الاعتماد الشديد على إيرادات النفط. يقود هذا التحول فهم عميق لضرورة التكيف مع الاتجاهات الاقتصادية العالمية وتحقيق نمو مستدام، خصوصاً في ظل تقلبات أسعار النفط وتغيرات ديناميات السوق. ويظهر التزام المملكة بالاقتصاد المعرفي من خلال مجموعة من المبادرات والاستثمارات الإستراتيجية المتعددة التي تهدف إلى تعزيز الابتكار والبحث والتقدم التكنولوجي. وتبرز برامج ضمن رؤية (السعودية 2030) التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بأهدافها الطموحة لتحويل السعودية إلى مركز نابض بالحياة للصناعات المدفوعة بالمعرفة. وتؤكد هذه الرؤية على أهمية تطوير رأس المال البشري وتعزيز روح ريادة الأعمال، وخلق بيئة مشجعة للابتكار والإبداع.
تُفاخر المملكة العربية السعودية بالاستثمار النشط في مجال التعليم، وبشكل خاص في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات (STEM)، بهدف تجهيز قوة عملها بالمهارات الضرورية لتحقيق النجاح في اقتصاد المعرفة في المستقبل. وتعكس المبادرات مثل إنشاء الجامعات المتخصصة ومراكز البحث والمنتزهات التكنولوجية إصرار البلاد على زرع ثقافة العلم والاكتشاف.
بالإضافة إلى ذلك، تُظهر جهود الحكومة السعودية في جذب الاستثمارات الأجنبية وتعزيز الشراكات مع قادة التكنولوجيا العالمية؛ التزامها بالاستفادة من الخبرات الدولية وأفضل الممارسات في دفع التحول الاقتصادي. فمن خلال اعتماد التكنولوجيا الرقمية، وتعزيز ريادة الأعمال، والاستثمار في التكنولوجيا الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة والتكنولوجيا الحيوية؛ فإن المملكة العربية السعودية مستعدة لاستكشاف فرص جديدة للنمو والازدهار، والتموضع كلاعب تنافسي في الاقتصاد المعرفي العالمي.
فقد شهد الناتج المحلي الإجمالي السعودي نمواً لافتاً خلال العقدين الأخيرين، حيث نجحت المملكة في رفع قيمة الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة (الناتج الحقيقي) بما يقارب الضعف تقريباً. فقد وصل الناتج المحلي الإجمالي حالياً إلى حوالي 4.1 تريليون ريال (574 مليار دولار أمريكي).
وقد تم تصنيف الاقتصاد السعودي كأسرع وأعلى الاقتصادات نمواً في مجموعة العشرين خلال السنوات القليلة الماضية، وهذا يؤكد بلا شك أن الخطط الإستراتيجية السعودية أثمرت نتائجها. فقد تم تحقيق نمو ملموس من خلال هيكلة الاقتصاد وتعزيز مقوماته الطبيعية، وتحفيز القطاعات الإنتاجية في مختلف المجالات، بالإضافة إلى دخول قطاعات جديدة وتنويع الاقتصاد، والتحول الرقمي والاقتصادي والتعدد الصناعي التقني. وقد انعكست هذه الجهود الإيجابية في نمو الاقتصاد بمعدلات غير مسبوقة.
تأتي هذه الإنجازات نتيجة للتحول الكبير الذي يشهده الاقتصاد السعودي، والناجم عن الإصلاحات المستمرة التي تهدف إلى تقليل الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل، وتعزيز التنافسية، إضافة إلى قوة السيولة وحجم رأس المال المتاح. وتشير التطورات الواقعية والبيانات الرسمية إلى إحراز تقدم واضح في النمو غير النفطي، الذي شهد تسارعاً منذ سنوات ووصل في المتوسط إلى حوالي 4.8 % منذ عام 2021. وعلى الرغم من تراجع النمو الإجمالي بسبب تخفيضات إضافية في إنتاج النفط، إلا أن النمو غير النفطي، كالقطاع السياحي وقطاع التعدين والصناعات ونشاط الصناعات العسكرية والقطاع الرقمي الذي يُعد حجر الزاوية في تحقيق نقلة مهمة في الاقتصاد المعرفي السعودي، استمر قريباً من 5 % في عام 2023، مدفوعاً بقوة الطلب المحلي المدعوم بزيادة السكان والشباب.
عملت مجموعة من العوامل على تعزيز التنويع الاقتصادي، منها تحسُّن البيئة التنظيمية وبيئة الأعمال. في عام 2022، على سبيل المثال: سُجِّلَ نَمُوٌّ قَدَرَهُ 95 % في الصَّفقات الاستثمارية ونمو 267 % في التراخيص الجديدة، بفضل مجموعة جديدة من القوانين المصممة لتعزيز ريادة الأعمال وحماية حقوق المستثمرين وتخفيض تكلفة ممارسة الأعمال. بالإضافة إلى ذلك، عمل صندوق الاستثمارات العامة السعودي على استثمار موارده الرأسمالية، بما في ذلك للمساعدة في تعزيز الاستثمار في القطاع الخاص، من خلال برنامج (شريك) الذي أطلقته الحكومة لتعزيز دور القطاع الخاص وزيادة مساهمته في الناتج المحلي. تشير التوقعات إلى أن الحزمة الأولى من المشروعات المدعومة ستحقق تأثيراً مباشراً على الناتج المحلي للمملكة بقيمة تقدر بحوالي 466 مليار ريال خلال العقدين القادمين، وستُسهم في إيجاد حوالي 64 ألف وظيفة بحلول عام 2030.
لقد ساهمت عوامل عدة في زيادة النمو غير النفطي، منها قوة الطلب المحلي، ولا سيما الاستثمار الخاص غير النفطي، وتعزيز الإنتاجية من خلال المشاريع الكبرى، ومن بينها مشروع نيوم ذو النطاق الهائل والمفاهيم الفريدة، وذا لاين. بالإضافة إلى ذلك، تُسهم الجهود المستمرة في تشجيع بيئة داعمة للابتكار والاستثمار في مهارات القوى العاملة كعناصر مكملة لخطة التنويع الاقتصادي.
وتهدف السياسات البسيطة المتعلقة بالرسوم والضرائب المفروضة على الشركات، وبخاصة على المستوى المحلي وفي المدن؛ إلى تعزيز جهود تطوير القطاع الخاص. وأخيراً، كان لآليات الرقابة والتقييم الدقيقة دور في تقليل المخاطر وضمان تحقيق المنافع المرجوة من هذه السياسات.
ويستحق جيل الشباب السعودي الإشادة، حيث بدأ فعلياً، ومنذ سنوات، في قيادة التحول نحو اقتصاد متقدم يعتمد على المعرفة والتكنولوجيا. ويجب التأكيد على فعالية سياسة المملكة في جذب استثمارات الشركات التقنية الناشئة، التي استفادت من بيئة استثمارية مشجعة، حيث وصلت قيمتها خلال الثلاث إلى الأربع سنوات لنحو 93 مليون دولار. يعزز هذا النجاح توصيات منتدى الرياض الاقتصادي في دورته الأخيرة، التي دعت إلى تأسيس كيان مؤسسي للاقتصاد المعرفي، الذي بدأت المملكة تشهد نشأته وتوسعه تدريجياً من خلال قصص نجاح في مختلف القطاعات الاقتصادية.
بالإضافة إلى ذلك، يسهم وجود نظام مالي قوي وقطاع بنكي نشط وشركات حكومية كبرى ذات مركز مالي قوي، جنباً إلى جنب مع الإصلاحات الهيكلية في الجوانب المالية والاقتصادية؛ في تعزيز قوة الاقتصاد الوطني. كما يجب التأكيد على دور تعزيز المحتوى المحلي والصناعة الوطنية، وزيادة النشاط في القطاعات التعدينية والتقنية المالية، والاستثمار الجريء، وتنمية القطاعات الاقتصادية الواعدة مثل التقنية والاتصالات والتحول الرقمي.
ختاماً، يُعتبر التحول السعودي نحو الاقتصاد المعرفي نهجاً جريئاً ورؤية طموحة للتنمية الاقتصادية، حيث يُبنى على الابتكار ورأس المال البشري والنمو المستدام، ويضع الأسس لمستقبل مزدهر وديناميكي يعتمد على قوة الأفكار والإبداع والمعرفة.

ذو صلة