مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

التعهيد من الأصدقاء وسلاسل الإمداد العالمية

اصطدمت بوني جليك نائبة مدير الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID في بدايات عام 2020، بصعوبات بالغة لتوفير مشتريات وكالتها من بعض لقاحات الملاريا، والأدوية اللازمة لمكافحة مرض الإيدز، بسبب الضربات التي تلقتها سلاسل الإمداد العالمية مع تفشي جائحة كورونا، خصوصاً في منطقة جنوب شرق آسيا، التي اعتمد العالم عليها بشكل شبه حصري -ومازال- في توفير المدخلات الوسيطة لمعظم الصناعات الدوائية، لذلك بدأت تنادي بالتوقف عن نهج التجارة السائد المعروف بالتعهيد من الخارج أو Off-Shoring حيث تعتمد الصناعات على جلب مدخلات الإنتاج من الخارج وتجميعها لحظياً لدى وصولها للمصانع.
النهج القديم لم يعد يصلح في ظل ما فرضه تحدي كورونا من إغلاق للموانئ، وانتشار العدوى بين طواقم السفن، وشغور منشآت الشحن والتفريغ، ما منع السلع من الوصول لأسواقها، والمدخلات من بلوغ مصانعها، الأمر الذى أجبر الغرب على التفكير في إعادة توطين صناعاته فيما بات يعرف بالتعهيد من الداخل أو On-Shoring، لكن هذا النوع من التعهيد غير اقتصادي بالمرة حيث سترتفع تكلفة المنتجات النهائية بسبب ارتفاع تكلفة الأيدي العاملة والطاقة في الاقتصادات المتقدمة عن نظيرتها في جنوب وشرق آسيا، ما سيعطي المنتجات الصينية والهندية خصوصاً مزيداً من التفوق في الأسواق الدولية.
لذلك أطلق معهد بروكينجز في يونيو 2021 إستراتيجية تجارية جديدة في مقالة بعنوان إعادة بناء الاقتصاد والسياسة الخارجية الأمريكية من خلال (التعهيد من الحلفاء Allay-Shoring)، الذي دعا إلى أن تتبنى الولايات المتحدة مبدأ (التعهيد من الحلفاء) لتعزيز المرونة الاقتصادية، وتعزيز الأمن القومي، وتنشيط السياسة الخارجية، بما يعني بناء سلاسل التوريد في الغالب مع حلفاء وشركاء موثوقين، لكن هذا النهج سيواجه جزئياً ذات التحديات التي سيوجهها النهج الأول، إذ إن حلفاء الولايات المتحدة في الغالب الأعم من الدول المتقدمة من الاقتصادات ذوات الدخل المرتفع، بما يرفع تكلفة الإنتاج ويقلل التنافسية.
حل عام 2022 ليزيد تعقد سلاسل الإمداد بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا، الأمر الذي أدى لعدم وصول المواد الغذائية الأوكرانية ابتداء إلى الأسواق العالمية، كما أضاف الرد الغربي باستخدام آليات العقوبات الاقتصادية المشددة، قيوداً جمة على وصول منتجات الطاقة والغذاء والمعادن والأسمدة الروسية للمستهلكين من الدول النامية والمتقدمة على حدٍ سواء، ما دفع بمعدلات التضخم في العالم إلى أعلى مستوياتها في أربعين عاماً، ليعرقل لاحقاً سيطرة الديمقراطيين على مجلس الشيوخ الأمريكي، ما استوجب تحركاً من الإدارة الأمريكية، إذ باتت سلاسل الإمداد تؤثر بشكل مباشر على الديموقراطية الأمريكية.
من هنا أطلقت الاقتصادية المحنكة جانيت يلين وزيرة الخزانة الأمريكية، خلال خطاب لها بالمجلس الأطلسي Atlantic Council في 13 أبريل، إستراتيجية التعهيد من الأصدقاء Friend-Shoring أي بعد الغزو الروسي بأقل من شهرين، حيث شددت بشكل مباشر على تفضيل دعم سلاسل التوريد من الدول الصديقة والموثوقة، بما يقلل من المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد الأمريكي، ويؤدي لزيادة فرص وصوله للأسواق، وتدعيم الأمن القومي بمعناه الواسع. تتميز هذه الإستراتيجية بتفادي عيوب سابقتيها، حيث ينتشر أصدقاء الولايات المتحدة على كامل خريطة العالم وفي أقاليمه المختلفة، وبالتالي يمكن الاعتماد عليهم ولو جزئياً وبالتدريج في الإحلال محل جنوب شرق آسيا، خصوصاً الاقتصاد الصيني.
إستراتيجية التعهيد من الأصدقاء تأتي للعالم بعدد وافر من الفرص والتحديات، وستعيد تعريف الاقتصاد العالمي بشكله الذي نعرفه في الوقت الحالي بشكل تام، فعلى جانب الفرص، سيبدأ الغرب في تقليل اعتماده على جنوب شرق آسيا، وذلك بنشر عدد أكبر من المصانع خارجه، بما يحد من تأثيرات التفشيات الوبائية المتوقعة في المستقبل، إذ إن الوباء -كما تعلمنا من كورونا- ينتشر في موجات، تخف حدتها عند الانتقال من إقليم لإقليم في العالم، وبالتالي ستحافظ الصناعة العالمية لو على غيض من المدخلات عند تعطل الإنتاج في أحد الأقاليم، حيث ستظل باقي الأقاليم منخرطة في التوريد.
كذلك سيخلق هذا التنوع الإقليمي مزيداً من النمو الاقتصادي لعدد من الدول النامية خصوصاً في إقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الذي يتوسط العالم، ويكتظ بالسكان، ويشتمل على موارد ضخمة من الطاقتين التقليدية والمتجددة، وفي ذات الوقت يتمتع بقرب جغرافي لمناطق الاستهلاك في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد يتميز هذا النمو بالشمول والاستدامة حيث سيضطر الغرب لخلق نظام بيئي صناعي متكامل يبدأ من توفير الطاقة الآمنة بشكل مستدام، ويمتد لتمديد نظم النقل البري والبحري، ثم مناطق التصنيع، وأخيراً رفع كفاءة العنصر البشري في البلدان المختارة لتستطيع مجاراة نظيرتها الصينية والذي لن يتأتى إلا بنظامي تعليم وصحة كفئين.
لكن جانب التحديات كذلك مكتظ بها، لعل أولها هو ازدياد حدة الاستقطاب العالمي، حيث ستقوم الولايات المتحدة وشركاؤها بتصنيف العالم إلى معسكرين أحدهما صديق، والثاني بخلاف ذلك، يكون الأول موضوعاً محتملاً للاستثمار، فيما يفقد الثاني هذه الاحتمالية، ما يدفعه دفعاً في اتجاه المعسكر الآخر الذي ستقوده في النهاية الصين وروسيا، اللتان ربما ستقدمان ذات الحزم التحفيزية ولكن بشروطهما الخاصة وبما يناسبهما من معايير ما يجعلنا في الحقيقة أمام عالم منقسم، ينهي موجة العولمة التي سادت خلال الخمسين عاماً الأخيرة من القرن الماضي ومازالت مستمرة حتى وقتنا الحالي.
هذا الانقسام الاقتصادي سيؤدي إلى انقسام تجاري حيث سيسلك المعسكر الآخر ذات المسالك الغربية، وبالتالي لن تشتري الصين وروسيا ولن تبيع إلا لأصدقائهما، وبالتالي ستتوقف موجات خروج الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى العالم بشكل حر، وسيتوقف كذلك ربما السلاسة التي يعرفها العالم الآن في انتقال الأفراد، وبالتالي تفقد عدد كبير من الدول أحد أهم مصادر دخلها من العمالة في الخارج والسياحة في آن واحد، ما سيعيدنا إلى ما يشبه عالم الحرب الباردة، لكن هذه المرة بشكل أعمق مبني على المصالح التجارية، والأسس الاقتصادية.
أخيراً فإنه في جميع الأحوال، يبدو النظام العالمي الذي عرفناه منذ نهاية الحرب الباردة على وشك التغيير، ربما تكون محركات هذا التغيير هي الصراعات المتفشية في عدد من الأقاليم الرئيسة في العالم سواء في شرق أوروبا، أو جنوب شرق آسيا أو في الشرق الأوسط، أو قد ينبع هذا التغيير أساساً من تبدل المصالح الاقتصادية في ظل التنازع بين الدول النامية والمتقدمة بشكل عام، لكن الأكيد أن هذا التغيير سيطال الترتيبات الاقتصادية الحالية، وسيغير كلية ديناميكيته التجارية بشكل شبه تام.

ذو صلة