مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

التحولات الكبرى في الاقتصاد العالمي.. مخاطر وتحديات

شهد العالم في العقود الثلاثة الماضية أحداثاً سياسيةً وإستراتيجيةً مفصلية، ألقت بظلالها على أداء الاقتصاد العالمي المعاصر، بسبب التأثير المتبادل بين الاقتصاد والسياسة، فمنذ انهيار الاتحاد السوفيتي (السابق) مطلع التسعينات من القرن الماضي، مروراً بحروب الوراثة اليوغسلافية، إلى بروز ظاهرة العولمة بأبعادها المختلفة، وخصوصاً الاقتصادي منها، وصراعات القوى الكبرى على مناطق النفوذ والموارد الاقتصادية الحيوية كالبترول والمعادن وغيرها في الشرق الأوسط وقارة أفريقيا وآسيا، إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى الانتفاضات العربية عام 2011م، وجائحة وباء كورونا (كوفيد-19)، كان البعد الاقتصادي حاضراً وبكل قوة في تلك الأحداث المهمة، ولن ينسى العالم الأزمة المالية العالمية الشهيرة عام 2008م، التي اعتبرت الأسوأ منذ أزمة (الكساد الكبير) عام 1929م، حيث بدأت تلك الأزمة بالولايات المتحدة، ثم امتدت إلى دول العالم، لتشمل الدول الأوروبية والدول الآسيوية وبعض الدول النامية. وقد شهدت السنوات الخمس الماضية مجموعة تغيرات اقتصادية بارزة، أثرت بشكل جلي على حركة التجارة الدولية وتدفقات رؤوس الأموال، وانتقال العمالة بين الدول. ضمن هذا السياق، سوف نتناول في هذه المقالة أبرز (التحولات الكبرى في الاقتصاد العالمي)، وسيتم التركيز على الجانبين التاليين: أولاً: آفاق نمو الاقتصاد العالمي، ثانياً: تذبذب حركة التجارة العالمية ومخاطرها على الاقتصاد العالمي.

أولاً: آفاق نمو الاقتصاد العالمي
تشير توقعات (صندوق النقد الدولي) إلى أن معدل النمو العالمي سيظل: 3.1 % في عام 2024م، وسيرتفع إلى 3.2 % في 2025م. ورفع البنوك المركزية لأسعار الفائدة الأساسية بهدف مكافحة التضخم، وسحب دعم المالية العامة وسط ارتفاع الديون؛ سوف يؤثران سلباً على النشاط الاقتصادي. كما تشير توقعات الصندوق إلى أن يتباطأ الاقتصاد العالمي إلى: 2.9 في المئة عام 2024، بعد تسجيله 3.0 في المئة العام الجاري (2023)، و3.5 في المئة عام 2022.
ويشير هذا الاتجاه التنازلي إلى المشهد الاقتصادي المتغير، وتزايد التباينات بين الاقتصادات العالمية، بين مجموعة ستشهد تباطؤاً في النمو بسبب التأثير التراكمي لأسعار الفائدة المرتفعة، والضغوط التضخمية، وأخرى في المقابل قد تشهد مستويات نمو مستقرة، مدفوعة بتسارع الأنشطة المحلية وانتعاش أسواقها. وتراجعت احتمالات الهبوط العنيف فضلاً عن توازن المخاطر على النمو العالمي إلى حد كبير في ظل تباطؤ معدل التضخم والنمو المطرد. وفي جانب التطورات الإيجابية في هذا الإطار، يمكن لتباطؤ معدل التضخم بوتيرة أسرع من المتوقع أن يؤدي إلى مزيد من تحسين الأوضاع المالية. وفيما يتعلق بالتطورات السلبية، قد يطول أمد صعوبة الأوضاع النقدية إذا ارتفعت أسعار السلع الأولية ارتفاعاً حاداً مجدداً، نتيجة للحروب والنزاعات المسلحة -بما فيها الحرب الروسية الأوكرانية، واستمرار الهجمات في البحر الأحمر، واضطرابات العرض أو استمرار التضخم الأساسي لفترة أطول.
من جانبه، حذر البنك الدولي (في يناير 2024م) من أن النمو العالمي في 2024م سيتباطأ للعام الثالث على التوالي، مما سيطيل أمد الفقر ويضعف مستويات الديون في الكثير من الدول النامية. وأوضح أن النصف الأول من العقد المقبل، الذي أصابه العجز بسبب كوفيد19، ثم الحرب في أوكرانيا، وما تلا ذلك من ارتفاعات في التضخم وأسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم؛ يبدو الآن وكأنه سيكون أسوأ أداء. ومن المرجح أن ينمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنسبة 2.4 في المئة هذا العام، حسب ما توقعه البنك الدولي في أحدث تقرير له عن الآفاق الاقتصادية العالمية.
وفي تقرير حديث صادر عن (المنتدى الاقتصادي العالمي) (WEF) World Economic Forum، يرى ستة من بين كل عشرة من كبار الاقتصاديين الذين شاركوا في استقصاء رأي للمنتدى أن أداء الاقتصاد العالمي جاء هزيلاً خلال عام 2023، ويتوقعون أن يصبح أكثر ضعفاً خلال عام 2024، الأمر الذي يتوافق مع تقديرات مؤسسات دولية عديدة.
وفي ضوء التوقعات المشار إليها سلفاً؛ يتضح وجود حالة من عدم اليقين وضبابية الرؤية في أداء الاقتصاد العالمي، ودرجات النمو المتوقعة له خلال هذا العام والأعوام الثلاثة القادمة، نتيجة لانعكاس حالة عدم الاستقرار السياسي والصراعات -المتعددة والمعقدة والممتدة- التي يشهدها العالم اليوم على الأوضاع الاقتصادية العالمية. ورغم أنها تظل توقعات -تقرأ الواقع وتستشرف المستقبل- إلا أن معطيات المشهد العالمي سياسياً واقتصادياً تشير إلى صعوبة تلك الأوضاع كما أسلفنا، بسبب وجود مجموعة متشابكة من العوامل الاقتصادية والجيوسياسية والبيئية تؤثر في مسارات تطور الاقتصاد العالمي.

ثانياً: تذبذب حركة التجارة العالمية
لا يحتاج القارئ إلى بذل كثير من الجهد ليدرك أن الحروب والنزاعات المسلحة التي يشهدها العالم حالياً يترتب عليها بطبيعة الحال تذبذب في حركة التجارة العالمية، حيث تشهد الساحة الدولية أزمات متراكمة ومزمنة، إذ بدأ عام 2024 مثقلاً بنحو 183 صراعاً شهدها العالم خلال عام 2023، وذلك وفقاً للمعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية (IISS). والملفت للانتباه أن غالبية الصراعات الدائرة تتسم بالتعقيد وصعوبة الحل، في ظل انتشار جماعات مسلحة غير حكومية وتدخل أطراف خارجية ذات دوافع أخرى. ومن ضمن تلك الصراعات: الحرب الروسية الأوكرانية التي فقد الاقتصاد العالمي بسببها: 2.8 تريليون دولار أمريكي خلال عام 2023، وفقاً لتقديرات منظمة (التعاون الاقتصادي والتنمية).
وبلغت حركة التجارة العالمية خلال عام 2021م قرابة: 28.5 تريليون دولار وفق تقديرات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد)، وأشارت المنظمة إلى أن: (الاتجاه الإيجابي للتجارة الدولية في عام 2021 كان ناتجاً إلى حد كبير عن الزيادات في أسعار السلع الأساسية، وتخفيف القيود الوبائية والانتعاش القوي في الطلب بسبب حزم التحفيز الاقتصادي). وأكد (التقرير الإستراتيجي العربي) لعام 2021م أن: (حركة التجارة العالمية تواجه تحديات متشابكة، خلال الأعوام القليلة المقبلة، تهدد هذا التعافي المأمول، أبرز هذه التحديات: هو الإنهاء المرتقب لحزم التحفيز الحكومية التي أنتجت هذا التعافي في المقام الأول، بالإضافة إلى استمرار النزاعات التجارية بين القوى الكبرى حتى الآن، وارتفاع معدل التضخم عالمياً إلى مستويات هي الأعلى منذ عقود، وما سيترتب على ذلك من رفع لأسعار الفائدة في الاقتصادات الغنية تحديداً، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى مخاطر أزمات ديون سيادية في الاقتصادات النامية، وبالتالي، إن لم تعالج هذه التحديات فقد تهدد بتراجع حركة التجارة العالمية، وكذلك نمو الاقتصاد العالمي برمته).
وبإلقاء نظرة سريعة على المؤشرات والتقارير الدولية سوف نلاحظ أن حركة التجارة الدولية كانت أفضل حالاً قبل الحراك الثوري الذي شهدته منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أواخر عام 2010، وبدايات 2011م، حيث ترتب عليها تغييرات سياسية وصراعات مسلحة وانقسامات سياسية حادة في بعض الدول، بل إن بعض تلك الصراعات ما يزال مستمراً حتى الآن، والأزمات الممتدة والمعقدة في ليبيا وسوريا واليمن خير دليل على ذلك..
ومع استمرار حدة الصراعات الجيوسياسية حذرت تقارير حديثة من استمرار تراجع حركة التجارة الدولية خلال هذا العام. حيث حدد (البنك الدولي) في تقرير حديث أربعة أخطار تهدد التجارة الدولية خلال العام الحالي، تتمثل في:
1 - خفض معدلات التجارة والاستثمار.
2 - ارتفاع أسعار الفائدة.
3 - ارتفاع مستويات الديون.
4 - تضخم مدفوعات خدمة تلك الديون.
وتوقع البنك الدولي أن تشهد الاقتصادات النامية تباطؤاً في النمو للعام الثالث على التوالي في عام 2024م. وذكر أنه بعد عقود من تسارع العولمة تساوت تقريباً معدلات نمو التجارة الدولية منذ عام 2008 في الاقتصادات النامية مع وتيرة نمو نشاطها الاقتصادي. وعلى رغم أن تباطؤ التجارة الدولية لا يعني بالضرورة تراجعاً عن العولمة؛ يرى البنك الدولي ضرورة مراقبة مثل هذه التطورات بشيء من الخوف والحذر.
وفي منتصف أبريل الماضي (2024م) حذرت منظمة التجارة العالمية من أن الاقتصاد العالمي سيواجه مزيداً من التباطؤ هذا العام متأثراً بتراجع الاستثمار وحركة التجارة الضعيفة. ودعت المنظمة إلى إستراتيجيات متعددة الأطراف لإنعاش الاستثمار والتجارة، ودعم التوظيف الكامل للموارد والتوزيع العادل للدخل، قائلة: إن (هذه الأمور ضرورية لتحقيق نمو قوي).
تكشف عملية رصد وتحليل معطيات الاقتصاد العالمي الراهن بكل جوانبه ظواهر مهمة ينبغي التوقف عندها، وإعطاؤها أهمية كافية عند الدراسة والتحليل، حيث أن عدم اليقين والضبابية وخداع المؤشرات -أحياناً- كلها ظواهر تستوقف الباحث عندما يغوص في أعماق التقارير الدولية والمؤشرات المختلفة المتعلقة بالاقتصاد العالمي. وهذا الأخير شهد بسبب ثورة المعلومات والاتصالات تطورات مهمة، تتعلق بتأثير العولمة الرقمية على النمو العالمي، وفكرة تدفق الأموال والسلع والأفراد، وانعكاسها على الأداء الاقتصادي، وكذلك بروز (العملة الرقمية) ومميزاتها ومخاطرها، والتغيرات المستمرة في أسعار صرف العملات الرئيسة، وتراجع الاستثمار الأجنبي حول العالم، وزيادة (النزعة الانعزالية) عن الاقتصاد العالمي.
وفي هذه المقالة تم التركيز على جانبين مهمين: أولاً: آفاق نمو الاقتصاد العالمي، ثانياً: تذبذب حركة التجارة العالمية ومخاطرها على الاقتصاد العالمي. وخلصنا في الجانب الأول إلى: أنه في ضوء التوقعات المشار إليها اتضح وجود حالة من عدم اليقين وضبابية الرؤية في أداء الاقتصاد العالمي، ودرجات النمو المتوقعة له خلال هذا العام والأعوام الثلاثة القادمة، نتيجة لانعكاس حالة عدم الاستقرار السياسي والصراعات -المتعددة والمعقدة والممتدة- التي يشهدها العالم اليوم على الأوضاع الاقتصادية العالمية.
وفي الجانب الثاني خلصنا إلى أن: الحروب والنزاعات المسلحة التي يشهدها العالم حاليا يترتب عليها بطبيعة الحال تذبذب في حركة التجارة العالمية، حيث تشهد الساحة الدولية أزمات وصراعات متراكمة وغالبيتها تتسم بالتعقيد وصعوبة الحل، في ظل انتشار جماعات مسلحة غير حكومية وتدخل أطراف خارجية. ومن ضمن تلك الصراعات: الحرب الروسية الأوكرانية، والحرب الإسرائيلية على غزة، والأزمات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وكلها أثرت سلباً على حركة التجارة الدولية وأداء الاقتصاد العالمي. وإذا كانت التنمية المستدامة والاقتصاد المتعافي يرتبطان بتحقيق الأمن والاستقرار، باعتبار أن رأس المال جبان، ولا يمكن له أن يوجد في بيئة غير آمنة؛ فإن معطيات المشهد السياسي العالمي تشير إلى أن غياب الأمن والاستقرار ما يزال سمة بارزة للتفاعلات الدولية الحالية في كثير من الصراعات المحتدمة حالياً في المناطق المشار إليها سابقاً. وعليه، فإن الأداء الاقتصادي العالمي سوف يكون متذبذباً، ويشهد هزات مختلفة، تبعاً لمعطيات نظام عالمي مضطرب.

ذو صلة