من خلال عنصر الباب، هناك فيلمان من إنتاج أمريكي والآخر إيراني أحدثا تواصلاً بصرياً، أحدهما استخدمه المخرج كأداة بصرية وأخرى قصصية حوارية، الفيلم الأول الأمريكي (the Searchers) إنتاج عام 1956، كان له حضور مهم في تاريخ السينما العالمية والأمريكية بشكل خاص، فعند صدوره لاقى نجاحاً باهراً جماهيرياً ونقدياً، وهو تتويج لمسيرة مخرجه جون فورد في هذا النوع من الأعمال الذي اصطلح على تسميته في السينما (الويسترون - أفلام الغرب الأمريكي)، وكان له تأثير على الأجيال السينمائية الأمريكية والعالمية من بعده، يحكي الفيلم عن شخصية (إيثان) الذي يقوم ببطولته (جون واين) الذي يقوم برحلة بحث عن بنت أخته، التي تم اختطافها من عصابة الهنود الحمر عند قيامهم بالهجوم على المنزل، فالعمل هو عبارة عن رحلة (إيثان) وهو يجوب الصحراء محارباً حتى يصل إليها، ليعود بها إلى بيتها ويبقى وحيداً في نهاية الفيلم أيضاً.
أما الفيلم الإيراني فهو (Where Is the Friend,s House) إنتاج عام 1987، وهو جزء من ثلاثية (القرية) للمخرج الإيراني عباس كيارستمي، وهو يحكي عن فتى يحاول إيصال كرّاسة صديقه التي سقطت أثناء خروجه من المدرسة؛ لإنقاذه من التعرّض لعقوبة المدرس الذي وبّخه سابقاً، محور الفيلم هو الرحلة من قرية الفتى إلى قرية صديقه، الذي يقرر حل واجبه وإعطاءه كراسته بعد ذلك بالصف.
في مشهد البداية لفيلم (The Searchers) نرى حركة الكاميرا تدور مع الشخصية وهي خارجة من باب منزلها لكي تستقبل قريبها، يستخدم جون فورد تقنية اللقطة الطويلة بكاميرا غير ثابتة، حين تخطو إلى الخارج تلتقط الكاميرا ملامح الصحراء، فتبدو الشخصية أنها على وشك السقوط أو الغرق وكأن الصحراء تبتلعها، ويكون الباب هو المساعد لهذه الرؤية نحو الصحراء.
بينما في فيلم (Where Is the Friend,s House) تبدو اللقطة ثابتة على باب، تطول قليلاً حتى يتضح أنها باب فصل دراسي، ويتضح أن الثواني وأصوات الطلاب في بداية الفيلم والانتظار حتى معرفة ماهية الباب ومن هم بالداخل، يضفيان على الفلم البُعد السردي للبحث والمغامرة الطفولية التي يقودها الطفل في سبيل الوصول إلى صديقه لتسليم كرّاسته التي سقطت منه حين خروجه من المدرسة.
نتتبع هذه اللقطة، في سير شخصيات الفيلم، ففي فيلم (The Searchers) جون لينون البطل الذي يبحث عن بنت أخته المخطوفة، والذي نرى استقباله في بداية الفيلم، يبدو قاسياً مع رفقته ومع من حوله وفي رحلته، فتمنحنا اللقطة نظرة على هذه الشخصية، من خلال ما ذكرناه مثل فتح الباب من غرق في عوالم الصحراء التي تشبه جون لينون.
وفي الجانب الآخر (Where Is the Friend,s House)، شخصية الطفل قد لا تكون تلك اللقطة بالبداية ما تكونه، لكن نرى أنها تلاحقه فهو يبحث عن باب صديقه، وفي طريقه يقابل عند جده نجار أبواب، ومن يدلّه إلى باب صديقه أيضاً نجار، ما يجعل تلك اللقطة تسيطر على سير نظرة الطفل إلى عالمه الخاص.
يمتد تأثير هذه اللقطة في البداية من تأطير الباب، على مجريات فيلم (The Searchers)، على الرؤية البصرية للمخرج التي تتضح من خلال تأطيره لأحداث الفيلم من خلالها، رغم أن ليس هناك ما يتكرر عن الباب، إلا أن تلك اللقطة في البداية التي دلنا عليها المخرج جون فورد، من خلال تأطير الباب ورؤيتنا للصحراء هي ما يقود السرد بالفيلم من بدايته إلى نهايته.
في (Where Is the Friend,s House)، يكون حضور الباب مكثفاً، فأين يذهب الطفل يقابله حوار عنها، يساعد هذا التكرار في السرد أننا نفهم عن دلالة اللقطة الأولى، وما يمكن أن تقودنا إلى نهاية الفيلم، الطفل الذي ينهكه التعب في البحث عن صديقه ويدور عليه هذه الكثافة، أنها تكون هي ما تقود سرد هذا العمل من بدايته حتى نهايته.
تأخذنا النهاية حين تنتهي مغامرة جون لينون بالنجاح إلى نفس تأطير الباب، لكن هذه المرة مع الشخصية وحيدة وتغادر هذا الباب الذي بدأ معه كل شيء، حقيقة تبدأ هذه النهاية عند معركة استعادة الفتاة، وتحديداً عندما يحملها جون لينون، وكأن المخرج ليس بحاجة إلى تقنية -اللقطة الطويلة-، لكن هذا التأطير من البداية للصحراء، يمنح كاميرا المخرج سردية للشخصية أنها منغمسة بالصحراء وتتأثر به ويؤثر فيها، وأن الوحدة هي مصيره في رمالها حتى في أعلى مرحلة تواصلية مع الآخر، إلا أن مصيره هو هذا التأطير عبر باب المنزل وهو يسير بعيداً عنه.
بينما في فيلم (Where Is the Friend,s House)، تبدأ النهاية عندما يلتقي الطفل بالنجار كبير السن، الذي يدله إلى بيت صديقه ويحكي له عن الأبواب التي عمل على إصلاحها في حياته، ويستمع الطفل بتململ، تحديداً عندما يصلان إلى بيت صديقه ثم يتذكر الواجب ثم يتراجع عن تسليم الكرّاسة، هنا أيضاً لم يحتج المخرج إلى تقنية للقطة طويلة، كأن الكثافة التي حضرت عن الأبواب قادت الطفل إلى هذه النهاية وساعدت في تحميلها هذا البُعد الغامض، فحينما يصل إلى مراده يتراجع عنه وكأنه امتداد إلى اللقطة الأولى لباب فصله، الطفولة المسرودة عبر هذه الأبواب التي يمر عليها لكي يسأل عن صديقه أو بين حضور النجار الشاب الأول والآخر المسنّ الذي تنتهي عنده رحلته، هي ما ساعدت في تقديم هذا الغموض في هذه القصة عن الريف وأهله والحالة العامة.
يختلف كلا المخرجين في معالجتهما الخاصة لفيلميهما وعلاقته مع الباب، فيعتمد جون فورد على التأطير البصري في البداية والنهاية ليستفيد من المدى الذي يطل من خلاله باب البيت إلى الصحراء ويطبقه على سرده في مختلف أحداث الفيلم ولا يذكره مباشرة، بينما عباس كيارستمي يكثف هذا العنصر من خلاله مباشرة في كل دقائق الفيلم، كان هناك إما حديث عن الباب أو شخصية -نجارين أبواب-، مما يمنح سردية الفيلم طابعاً خاصاً يتعلق بها.
يصبح الباب أداة سردية من خلال توظيفه سينمائياً، بحيث لا يصبح رمزاً مقحماً على السرد يتطلب تفكيكه، بل جزءاً يتفاعل داخل الفيلم للمشاهد، يقدم من خلاله المخرج رؤيته لقصته الخاصة.