تأخذ صورة المكان في السير الذاتية مكانة بارزة، وتحتل جزءاً كبيراً من اهتمام الكتّاب، و(يشكّل المكان واحداً من المحاور الرئيسة التي تشتغل بها نظرية الأدب الحديث، كونه عنصراً تشكيلياً من عناصر النص. بالإضافة إلى أن المكان يشكل قيمة دلالية خصوصاً في منظومة النص اجتماعياً ونفسياً. فعلاقة الإنسان بالمكان تتكون وتتمحور حول إطار الخبرة المباشرة والإدراك الحسي)، ومن هنا نجد أن (نصوص السيرة الذاتية قائمة على تجلي الأزمنة والأمكنة وما يتشّكل فيهما من فكر وثقافة مجتمعية).
تأخذ صورة المكان في السير الذاتية مكانة بارزة، وتحتل جزءاً كبيراً من اهتمام الكتّاب، و(يشكّل المكان واحداً من المحاور الرئيسة التي تشتغل بها نظرية الأدب الحديث، كونه عنصراً تشكيلياً من عناصر النص. بالإضافة إلى أن المكان يشكل قيمة دلالية خصوصاً في منظومة النص اجتماعياً ونفسياً. فعلاقة الإنسان بالمكان تتكون وتتمحور حول إطار الخبرة المباشرة والإدراك الحسي)، ومن هنا نجد أن (نصوص السيرة الذاتية قائمة على تجلي الأزمنة والأمكنة وما يتشّكل فيهما من فكر وثقافة مجتمعية).
وحين أقرت الجهات المسؤولة عن التعليم في المملكة العربية السعودية الابتعاث لطلابها المتميزين بعد الحصول على الثانوية كانت مصر وجامعاتها العريقة في مقدمة الوجهات المرشّحة، وكانت هناك مدرسة في مكة المكرمة متخصصة في تهيئة الطلاب للابتعاث، وهي (مدرسة تحضير البعثات)، وكان لها برنامج سنوي لاختيار أفضل الطلاب وإرسالهم لمواصلة دراساتهم الجامعية، وكان أن تولت طلائع المبتعثين إلى مصر العديد من الوزارات والمناصب المرموقة، وبخاصة أن بعضهم واصل دراسته العليا في الماجستير والدكتوراه في بريطانيا أو أمريكا بعد حصوله على الشهادة الجامعية من الجامعات المصرية في القاهرة والإسكندرية.. وغيرهما من المدن المصرية.
ومن أبرز الأسماء التي درست في الجامعات المصرية، وتولت مناصب رفيعة جداً فيما بعد، وكتبت عن تجربتها في الابتعاث في سير ذاتية: الدكتور عبدالعزيز الخويطر، والشيخ جميل الحجيلان، والدكتور غازي القصيبي.. وغيرهم. ولعلنا نبدأ بأقدمهم ابتعاثاً في الأربعينات من القرن الماضي وقبل ثورة 1952م، وهما: الدكتور عبدالعزيز الخويطر، والشيخ جميل الحجيلان، ويعد الحجيلان من أقدم الدارسين في مصر من السعوديين، وقدم إليها عن طريق البر، ثم عن طريق القطار من مدينة ريفية بدوية سورية (دير الزور)، حيث ولد لأبوين سعوديين، وكان والده من تجّار العقيلات يبيع ويشتري في الإبل والخيل العربية الأصيلة بين الشام ومصر.
يقول الحجيلان مؤرّخاً لبدء دراسته في مصر: (في يوم 30 رمضان 1363هـ الموافق 17 سبتمبر 1944م ركبت القطار من محطة سكة حديد الحجاز في مدينة دمشق متوجهاً إلى القاهرة عبر فلسطين؛ كي أستكمل دراستي الثانوية والجامعية هناك)، والتقى في القاهرة بأبيه الذي اصطحبه إلى السفارة السعودية لمقابلة السفير فوزان السابق، ثم يصف الحجيلان القاهرة في الأربعينات من القرن الماضي منبهراً بتطورها وحضارتها، وبخاصة أنه قدم إليها من مدينة صغيرة يغلب عليها الطابع البدوي والريفي، وهي (دير الزور) بسوريا، يقول: (كانت القاهرة في أعوام الأربعينات مدينة كل ما فيها رائع يبعث على الانبهار، كانت في ذروة تألقها وازدهارها، ومن لم يعرف القاهرة في أعوام الأربعينات لم يعرف عصرها الذهبي، كان الوجود الأوروبي من خلال مؤسساته الاقتصادية والثقافية فيها قد أضفى على سمتها الشرقي سمة غربية الملامح زاهية الألوان، لم تكن مزدحمة بالسكان كما عليه الآن، كانت مدينة لا تلوث فيها، بل نظيفة خضراء، كنت أتأمل بذهول كل ما أتت عليه عيناي في هذه المدينة العظيمة: شوارعها الفسيحة، على جانبيها صفوف من الأشجار الكثيفة الندية، عمائرها الضخمة العالية، نساؤها السافرات الجميلات، محلاتها التجارية الفخمة الأنيقة، مطاعمها، صالات السينما بمقاعدها الوثيرة وتهويتها المركزية، جامعاتها العريقة التي أثارت لدي أحلاماً متواصلة بالانتساب يوماً إليها، قصورها الرابضة على ضفاف النيل، مسارحها، مقاهيها).
ويعدّد الحجيلان بعض المقاهي والفنادق التي أدركها حينما كان يدرس، ومنها: مقهى لاماريكين في شارع فؤاد الأول، ومقهى جروبي في ميدان سليمان باشا وفي شارع عدلي، وفندق شيبرد المطل على ميدان الأوبرا، وفندق سميراميس على شاطئ النيل، وفندق مينا هاوس أمام أهرامات الجيزة، ثم يشير إلى أن سكان القاهرة آنذاك في حدود ثلاثة ملايين فقط. ويصف طريق عودته من الجامعة ماراً ببعض المعالم في القاهرة؛ فيقول: (كنت أتجول في طريق عودتي من الجامعة في شوارع سليمان باشا وقصر النيل وفؤاد الأول وعماد الدين وصولاً إلى محطة القطار في باب الحديد (ميدان رمسيس)، لا ازدحام ولا عناء، والعين ما تكاد تشبع من ملاحقة المشاهد الحضارية البهيجة، كنت أتوقف أحياناً في طريق عودتي من الجامعة في ميدان الإسماعيلية (التحرير الآن) كي ألتهم شاندويشاً من الفول في مطعم (إيسا فيتش) على اسم صاحبه الخواجه اليوغسلافي ذي الشعر الأشقر والعيون الخضر، وفي مواجهته مطعم للألبان اسمه (أسترا) أستكمل فيه بهجة الطعام بكأس من السحلب الساخن الممتع اللذيذ، يا لها من أيام!).
أما عبدالعزيز الخويطر فقد دوّن سيرته الذاتية في عدة مجلدات، وروى بالتفصيل قصة ابتعاثه إلى القاهرة للدراسة فيها، وعنوان سيرته (وسم على أديم الزمن.. لمحات من الذكريات)، ففي الجزء السادس من السيرة الصادر في عام 2007م، وصف دفعته في الابتعاث بأنها الخامسة، وحاول أن يعطي لمحة عن حياة طالب البعثة وأثر انتقاله من بيئة محافظة، ومن وجوده تحت رعاية أهله وعنايتهم ورقابتهم إلى بيئة مختلفة. ويروي الخويطر أن البعثات إلى مصر بدأت في عام 1346هـ/1926م، ثم توقفت أيام الحرب العالمية الثانية، ثم زادت الأعداد بعد انتهاء الحرب، يقول: (تتالت البعثات كل عام منتظمة، وكان الطلاب المبتعثون يقبلون في كليات جامعة الملك فؤاد (جامعة القاهرة حالياً)، وكان عدد طلاب البعثة يتضاعف كل عام عن الذي قبله، ولم تعد الجامعة تتحمل هذا العدد المتزايد، فبدأ إرسال طلاب من الوافدين الجدد إلى جامعة الملك فاروق الأول (جامعة الإسكندرية حالياً))، ولم تكن وسيلة السفر في ذلك الوقت الطائرة، بل باخرة حملت الطلاب من جدة إلى ميناء السويس، ثم القاهرة بحافلة، وكان الوصول بعد ثلاثة أيام من السفر بالباخرة، ونالهم من التعب ما نالهم، يقول: (أقبلنا في اليوم الثالث على ميناء السويس، وكان منظراً مفرحاً، أليس فيه الفرج مما نحن فيه؟ وإن كنا قد بدأنا نتحسن، ولكن لا شيء مثل الأرض).
وقد استقبلهم مسؤول من إدارة البعثات، ثم أركبهم حافلة تنقلهم إلى القاهرة، وكانت الوجهة الأولى في القاهرة دار البعثات في شارع الروضة، وبعد الراحة وإنهاء الإجراءات الرسمية راق للخويطر وزملائه اكتشاف العاصمة المصرية، يقول واصفاً لحظات الدهشة برؤية القاهرة عام 1945م: (كل شيء أدهشنا في القاهرة، أدهشتنا كثرة السيارات وتنوعها، الصغير منها والكبير، الخاص والعام، وأُعجبنا بالقطارات وانتظامها وانتشارها ومحطاتها وسائقيها والعاملين عليها. بهرتنا (الترامات) بخطوطها الواسعة المنتشرة وأوقاتها المحدّدة وبمن تحمله، وبعدد من تحمله، دهشنا من كثرة الناس ومن سعة المدينة وارتفاع مبانيها وحسن الهندسة فيها، ودهشنا من الشوارع واتساعها وسفلتتها، والأرصفة وحسن بنائها، ومن تنظيف الشوارع والأرصفة المنتظمة، ومن المرافق المختلفة: الصيدليات والفنادق والمحلات التجارية الكبرى، والسينمات والمسارح والمراقص، وكل شيء يخطر على البال، ورأينا ما قرأنا عنه في الكتب عن مصر وفي الصحف رأي العين، ولمسنا بعضه باليد، أماكن غسيل الملابس وكيها، وتفصيل البدل وتنظيفها وكيها في كل مكان، وما على المرء إلا أن يختار أن يكون زبوناً لهذا أو ذاك).
ويضيف: (انفتحت أمامنا أبواب لم نكن نعرفها أو نتوقعها، كان انتقالنا مفاجئاً دون تمهيد، وجئنا دون تهيئة، وأخذنا نستوعب ما نفاجأ به، وما نلاقيه بلهف وإقبال، وما لم يأتنا نذهب ونبحث عنه؛ لأن من عرفه من زملائنا شوّقنا إليه مثل الريف بمزارعه وإقطاعاته، والبحر ومصايفه وشواطئه، ومثل المتاحف وحدائق الحيوان والحدائق العامة والأهرامات وبقية الآثار المتنوعة).
وعن موقف الشباب المبتعث من المرأة يقول: (فوجئنا بالسفور ونظرة الناس إليه، وملاحظة الناس لنهم عيوننا وحيائنا عند التعامل مع النساء في الكليات وفي المطاعم وفي السينما وفي المحلات التجارية..، واحتجنا إلى وقت لنقبل الأمر على ما هو عليه، وندخل الصف كما لو أننا ممن نتعامل معهم). وروى الخويطر ما صادفهم من مواقف مع اللهجة المصرية فقال: (كانت اللهجة المصرية هي أول عامل قابلناه، فهناك تعبيرات تتكرر وهي أول ما يثبت في ذهن الغريب، وهناك كلمات يحتاج إلى أن يُنتبه لها؛ لأنها تختلف معنى أو لفظاً عما اعتاده..، جئنا وعلينا أن نتقن اللهجة المصرية حتى ندخل في المجتمع طولاً وعرضاً، وإتقان اللهجة مفيد بلا شك، وإن كان عدم إتقانها أحياناً يفيد، فكان السعودي محبوباً، ولا يُخاطب إلا بشيخ العرب، إذا اكتشف (الكمساري) أو غيره أن الراكب سعودي، وأذكر أن أحد الطلبة الجدد ركب الحافلة ذاهباً إلى الجامعة مع أحد الطلاب القدامى، وأصر الطالب الجديد على أن يدفع قيمة التذاكر، فوافقه زميله بعد إلحاح، وأقبل (الكمساري) قاطع التذاكر وهو ينادي كالمعتاد: تذاكر، تذاكر، ورق، ورق، فمد السعودي يده بالمبلغ وقال: تذكرتين للجامعة، ونطق الجيم كما تنطق في مصر، فقال (الكمساري): حاضر ياشيخ العرب، فاستغرب الطالب السعودي الجديد، والتفت إلى زميله وقال: كيف عرف أني لست مصرياً وأني من الجزيرة قال زميله: لأنك قلت (القامعة)، والمفروض أن تُخطف الكلمة وتقول (القمعة)!).
وننتقل إلى مبتعث متأخر زمنياً عن ابتعاث الحجيلان والخويطر بسنوات ليست كثيرة، وهو الأستاذ عبدالله بن حمد القرعاوي الذي أقلته طائرة داكوتا من جدة إلى ميناء الطور لغرض الحجر الصحي أولاً، ثم التوجه إلى القاهرة، وكان ذلك في ذي الحجة 1370هـ/ أكتوبر 1951م، نزلوا في ساحة الطور الصحراوية، واستأجروا غرفة، وكان الوقت كما يصفه ثقيلاً بطيئاً، ولكنهم قطعوا الوقت بالطرف والملح والقصص المسلية والاستماع إلى الراديو ومراجعة الأمنيات.
ثم يصف رحلتهم الجوية من الطور إلى القاهرة فيقول: (تجمعنا وركبنا الطائرة، ونزلنا في مطار (ألماظة) الصغير الذي كان هو المطار الرئيس في مصر قبل بناء مطار القاهرة الدولي، وكان هذا اليوم هو الثامن من أكتوبر 1951م، ونزلنا المطار ونحن في دهشة غريبة..، كنا في دهشة بالغة ونحن نرى الحركة السريعة في المطار، وخليط من النساء والرجال يجرون من هناك وعليهم لباسهم الرسمي الذي يشبه لباس العسكر والضباط، وكانت المضيفات بملابسهن الزاهية الملونة يتطايرن في المطار من ركن إلى ركن كأنهن الفراشات).
ويصف القرعاوي شغفه في مجال القراءة وهو الآن في القاهرة حيث تصدر عدد من الصحف والمجلات الثقافية، وهي مجلات كان يتابعها وهو في مكة المكرمة أثناء دراسته ما قبل الجامعية، يقول: (أصبح وصولنا إلى منابع الثقافة سهلاً، وبدأنا نشعر أن حب القراءة يفرض علينا نوعاً من الاتصال السريع والملاحقة المستمرة، وهذا لا يتوافر إلا بمتابعة الصحف اليومية والمجلات الشهرية التي تُعنى بالسياسة وتحليلاتها العميقة، وكانت هذه الصحف والمجلات رافداً قوياً إلى جانب الدراسة الجامعية، وإن كانت تطغى على هذا الجانب لما فيها من تشويق وجذب واطلاع على جوانب مجهولة لا يمكن أن تصل إليها إلا من خلال هذه الوسائل الجذابة، وكانت تلك الفترة من العمر فترة الاستيعاب والتأمل حتى إننا كنا نقرأ في عدة مصادر من مجلات وكتب وغيرها).
غير أن القرعاوي أشار إلى المؤثرات السياسية في تلك الفترة من دراسته في الجامعة نتيجة وجود بعض المظاهرات، يقول: (بدأت الدراسة في سبتمبر 1951م ولكن الاضطرابات السياسية لم تتح للدراسة أن تستمر إذ كانت المظاهرات الطلابية تجتاح جامعة فؤاد (القاهرة حالياً)، ويظهر طلابها يجوبون شوارع القاهرة، وتسري عدواها إلى طلاب الجامعتين الباقيتين: جامعة إبراهيم (عين شمس) بالقاهرة، وجامعة فاروق (جامعة الإسكندرية)، فيضطر المسؤولون في الجامعات إلى إيقاف الدراسة أسبوعاً، ثم تفتح الجامعات وتعود المظاهرات فيعود الإغلاق، وهكذا تدور الأيام بين فتح وإغلاق ودراسة ومظاهرات.. كانت نهاية العام 1951م فترة اضطرابات سياسية لم تشهد لها مصر مثيلاً، وانعكس هذا على كل جوانب الحياة في مصر).
ومن هنا لم يرتح القرعاوي لمواصلة دراسة الحقوق في القاهرة، ورأى أن يواصل دراسته في الإسكندرية، خصوصاً أنه زارها وأعجبته، فقرر التحويل إليها، يقول واصفاً أيامه الأولى هناك: (عندما أتيت إلى الإسكندرية شعرت أن الطلاب فيها يعيشون في جو جامعي أفضل، وأن صلاتهم ببعضهم قوية أكثر من الطلاب في القاهرة، حيث إن عددهم قليل وتواصلهم دائم، وكل منهم يعيش في سكن خاص).
وحاول أن يختار تخصصاً غير الحقوق الذي أخفق فيه في القاهرة، فدخل كلية الآداب، واختار قسم العلوم الفلسفية والاجتماعية والنفسية، ولكن الحياة السياسية لم تستقر كما يصفها القرعاوي، وكان طلاب الجامعات هم العمود الفقري للحياة السياسية، وكانت الأحزاب تحرّكهم، مستغلة الحرية الواسعة التي كانت تتمتع بها، غير أنه وصف جو الدراسة في الإسكندرية بأنه هادئ نوعاً ما عن الجو في القاهرة، ما عدا ما ينتظم في الجامعات من حركات وإضرابات.
ويتوقف القرعاوي فيعدّد بعض أساتذته الذين كان يسمع بهم ويقرأ عنهم في الصحف والمجلات، فإذا هو به يراهم كل يوم يفيضون عليه من علومهم وتخصصاتهم الغزيرة، وأشار إلى أسماء بعضهم، وهم: الأستاذ يوسف كرم، والدكتور أبو العلا عفيفي، والدكتور علي سامي النجّار، والدكتور أحمد أبو زيد، والدكتور محمد السيد بدوي، وغيرهم.
أما عبدالله منّاع الأديب والطبيب فقد روى أنه رشّح لدراسة الطب في مصر بعد حصوله على الثانوية، وقبل في إعدادي الطب في القاهرة، ولم تكن زيارته لمصر لأول مرة فقد عرفها من قبل، وعن ذلك يقول مستدعياً ذكرياته في القاهرة: (فاجأتني القاهرة التي عرفتها خطفاً من قبل في زيارتي القصيرة لها بصحبة العائلة عام 1954م بتفاصيل حياتها وموجوداتها بنيلها الجميل وجسورها الأجمل التي أراها فأحسن النظر إليها لأول مرة: من عباس إلى الجلاء إلى قصر النيل إلى كوبري أبو العلا.. وميادينها من الأوبرا إلى الجمهورية إلى التحرير، وفنادقها من الإنتركونتيننتال إلى شبرد إلى الخيام، ودورها السينمائية من مترو إلى ريفولي إلى كايرو بلاس، وجامعاتها وصحفها ومجلاتها وكتبها ومكتباتها وحسينها وأزهرها وقصورها وفللها وعماراتها الشاهقة وشوارعها الجميلة من 26 يوليو إلى سليمان باشا، ومن طلعت حرب إلى عماد الدين، ومن عدلي إلى الشريفين بمعروضاتها المثيرة المذهلة التي لم أكن أشبع من رؤيتها).
غير أن منّاع وجد نفسه منقولاً إلى الإسكندرية، وها هو يستقل القطار لأول مرة من القاهرة إلى الإسكندرية، وأخذت مناظر الريف المصري تتابع من خلف النافذة، ثم وصل قطار الديزل السريع محطة سيدي جابر على رمل الإسكندرية، ثم أخذ يتهادى إلى داخل محطة مصر بميدان محرم بك في قلب المدينة لتأخذه إحدى عربات الأجرة التقليدية بلونيها البرتقالي والأسود إلى مقر البعثة السعودية على كورنيش (الأزاريطا).
ويصف منّاع الإسكندرية حديث العاشق لمعشوقته فيقول: (مع توالي الأيام كانت الإسكندرية تبهرني بنظافتها وهدوئها وأناقة شوارعها، ببحرها وهوائها وغيوم خريفها المثيرة، بكورنيشها الجميل وعمارته المتماثلة في أحجامها المختلفة في تصاميمها والممتد لثلاثين كيلاً بامتداد أحيائها على البحر من رأس التين غرباً إلى المنتزه شرقاً، وبترامها الأزرق الفاخر بدوريه وهو يسير بمحاذاة البحر من الرمل إلى فكتوريا، ماراً بكل أحياء الساحل من محطة الرمل إلى (الأزاريطا) إلى الشاطبي وكامب شيراز، إلى الإبراهيمية وكليوباترا وسيدي جابر، وهكذا وجدتني في مدينة أكثر تطوراً ومجتمع أكثر تحرراً، وحياة أكثر سعة في علمها وثقافتها وفنونها وفنانيها ووعيها).
ويختم مناع حديثه عن مصر ودراسته فيها فيقول: (كانت سنوات الابتعاث الست في مصر بين القاهرة والإسكندرية مثيرة ومعلمة مليئة ومشبعة: اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، فقد كانت مصر في تلك الأيام من أواخر الخمسينات وأوائل الستينات الميلادية تعيش ذروة بهجتها ونشوتها وانتصاراتها السياسية بعد رحيل آخر جنود الاحتلال البريطاني عنها في يناير من عام 1957م، وانسحاب آخر فلول الجنود الإسرائيليين الذين شاركوا في العدوان الثلاثي في مارس من العام نفسه).
وبعد إنشاء جامعة الملك سعود في مدينة الرياض في عام 1377هـ/1957م، وما تلاها من جامعات في المدن الكبرى مثل: مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والدمام تراجعت أعداد المبتعثين إلى مصر للدراسة الجامعية، وأصبح الابتعاث يقتصر على الدراسات العليا للحصول على الماجستير والدكتوراه، وكانت مصر من المحطات المرغوبة لدى الباحثين السعوديين، ومنهم الدكتور محمد بن سعد بن حسين الذي قضى أكثر من خمس سنوات شبه متواصلة في القاهرة مبتعثاً للحصول على الماجستير والدكتوراه، وكان هذا في المدة من 1394 - 1398هـ (1974 - 1978م)، غير أنه يذكر أنه زار مصر قبل ابتعاثه لعلاج زوجته، وكان ذلك في عام 1390هـ/1970م، يقول: (وصلنا القاهرة وسكنا في فندق فكتوريا في شارع الجمهورية، وفي الغد استأجرنا شقة في جاردن سيتي على شارع القصر العيني).
ونظراً لسمعة الأزهر الكبيرة فقد تاقت نفسه لزيارته، ولكنه وجد صعوبة في الوصول إليه، يقول راوياً الموقف: (كان مما حرصت على زيارته في مصر (الأزهر)، وكنت كلما سألت عنه يقول الناس لنا: هو في الحسين، ويصفون لنا فلا نهتدي، وفي يوم سألت واحداً: هل الأزهر قبل السيدة أم بعدها؟ قال: بعدها، فاتجهنا إلى السيدة زينب مشياً، ومنها اتجهنا كيفما وصف لنا الواصفون، حتى وصلنا إلى الأزهر..، وزاد في استغرابنا أننا كنا نمر بهذا الحي كثيراً فلم نلحظ أن الأزهر هنا)، ويستعيد تاريخ ابتعاثه، وكانت بصحبته أسرته، كما يروي قصة امتحان بدء الدراسات العليا في جامعة الأزهر، يقول: (في الخامس من شوال 1394هـ/1974م سافرت من الرياض أنا وأسرتي إلى القاهرة مبتعثاً، وبعد وصولي بأسبوع ذهبت إلى الكلية. كان وصولي إلى القاهرة قبل الامتحان بأسبوعين، ذهب منها أكثر من أسبوع في البحث عن سكن، لكن قد هضمت المقررات إلى حد الحفظ، أضف إلى هذا أني كنت أدرّس الأدب الجاهلي لطلبة السنة الأولى في الكلية عندنا، ثم إني في العام نفسه كتبت كتابين عن العصر الجاهلي، فأنا لست في حاجة إلى استعادة المقررات، وحان الامتحان، وأديناه بروح مطمئنة تماماً كالدور الأول)، ويكشف جوانب من أجواء الامتحان حين يقول: (وجاء دور امتحان التعيين، الامتحان الشفوي. وكانت عادتي في جميع الامتحانات التحريرية والشفهية منذ كنت طالباً صغيراً أن أدخل الامتحان في كامل الهدوء وأجيب في هدوء أيضاً، ثم أخرج ولا أفكّر بعد ذلك فيما كان وسيكون، كما كنت أستقبل نتائج الفشل والنجاح وغيرها من مفاجآت الحياة بكل هدوء، حتى إني حيناً أتهم نفسي بتبلّد الشعور لولا ما أحسّه في مشاعري من حيوية مفرطة، والحمد لله).
وأضاف: (المهم أني نجحت ولن أضيع زيادة عام في مصر، كنت سأضيعه لو اتجهت إلى جامعة القاهرة، إذ سيترتب علي البدء من جديد، وجدير بالإشارة هنا أن مرحلة الماجستير في كلية اللغة العربية بالأزهر في أيامنا كانت عامين فقط، أي: أنها في المدة كانت تماثل جامعة القاهرة، وقد وفّر لي نجاحي اختصار عام من الصعب التضحية به، لذا واصلت الطريق. كانت الأيام التي سبقت الامتحان وصحبته وتبعته كلها أيام لم أرتح فيها؛ لأسباب أهمها أني كنت أريد سكناً مناسباً قريباً من المدارس بمراحلها الابتدائية والإعدادية والثانوية، كما كان عليَّ أن أحصل على سكن في حي لا تكون المدارس فيه مختلطة، وكان معي من أولادي بنين وبنات خمسة في مختلف المراحل، ووجدت أن المنيل من أنسب الأحياء فاستأجرت فيه شقة في شارع محمد زغلول، رقم 5 شقة 15، وكانت مناسبة من كافة الوجوه).
ويقص ابن حسين جوانب من برنامجه اليومي في القاهرة حين يقول متحدثاً عن زميل له مصري اسمه محمد أحمد التابعي: (على أي حال، فقد كنت ألتقي أنا والتابعي في الفيشاوي ونقرأ، وقد نأكل ونشرب الشاي فيها، وقد نشرب الشاي ثم نسير على أقدامنا حتى مقهى باب الخلق حيث نأتي بأكل ثم نشرب شاياً أيضاً، ثم بعد استراحة نواصل السير إلى السيدة زينب حيث أركب من هناك ويرجع صاحبي إلى أهله، وقد نواصل السير إلى المنيل حيث أسكن، ونحن في سيرنا نقرأ أو نتحدث ونستريح حين يدركنا التعب هنا أو هناك).
ويسترجع بعض الذكريات له في مصر، فيقول: (لو أني أردت الوقوف عند كل حدث عشته في مصر لطال وقوفنا ولكثرت مدوناتي عنها، فحسبي منها ما له صلة مباشرة بحياتنا في تلك الأيام التي عشناها هناك، بل إني اكتفيت من ذلك ببعضه، وإذا أردت مثالاً على ذلك فخذ هذا: في يوم أردنا الخروج في فسحة (نزهة) ولم نكن نرتاح إلى المواصلات العامة، لكن في هذه المرة قلنا نجرّب القطار (المترو) ونذهب فيه إلى حلوان، وفعلاً ذهبنا ومعنا صديق مصري واستقرَّ بنا المقام في حديقة فيها تماثيل الأربعين حرامي كما يقولون، وأكثر ما تمتاز به الأشجار الضخمة ومنها شجرة طويلة جدّاً لكنها منحنية من أسفل جذعها لترتفع تدريجياً حتى يبلغ ارتفاع رأسها عن الأرض أكثر من عشرين متراً أو يزيد، وطول جذعها يربو كما قالوا على أربعين متراً، صعدتها حتى نهاية المقلم منها).