مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

المستشرق عبدالكريم جرمانوس.. عاشق العربية المجري

كثر الحديث عن سحر اللغة العربية وتعلمها في مختلف الأقطار والجنسيات وشغف متعلميها في المزيد والمزيد من الإبحار والغوص في متونها وأمهات كتبها ومصطلحاتها الثرية التي لا تنضب أبداً، حتى وقع في عشقها الكثير وأصبحت لبعضهم الشغل الشاغل لهم، والوله الذي يجدد حياتهم، ومن هؤلاء المستشرق المجري (عبدالكريم (جيولا) جِرمانوس) (1884 - 1979م) عالم ومستشرق ورحالة وكاتب أكاديمي وسياسي مجري مسلم، تعلَّم العديد من اللغات منها: اليونانيّة، اللاتينيّة، الفرنسيّة، الإنجليزيّة، الإيطاليّة، الفارسيّة، التركيّة، الأورديّة والعربيّة بالإضافة للغته الأصلية المجريّة.
دَرَسَ العربية بالأزهر الشريف واعتنق الإسلام، وكان ذلك بمثابة تحوّل كبير في حياته، حتى وصف بلسان حاله: (هي لحظة من لحظات الإشراق)، كما درس علوم اللّسانيات والأدب التركي بجامعة بودابست، وهو تلميذ للمستشرقين المجريين الشهيرين أرمينيوس فامبيري (1832- 1913م)، وجولد تسيهر (1850- 1921م).
تمَّ إرساله بعد تخرجه في بعثة إلى جامعة إسطنبول لتعلم اللغة التركية عام 1903، واستطاع إتقانها خلال عامين، وهناك قرأ تفسير القرآن الكريم باللغة التركية، ومن هنا جاء اهتمامه باللغة العربية والقرآن الكريم، اعتنق الإسلام في الهند عام 1932، ثم أدى فريضة الحج ثلاث مرات.
شغل العديد من المناصب في عدة دول، ونظراً لتفوقه وإتقانه للعربية تم تعيينه عام 1912م أستاذاً في المدرسة العليا الشرقية ببودابست للغات العربية والتركية والفارسية وتاريخ الإسلام وثقافته، ومن ثم في القسم الشرقي من الجامعة الاقتصادية هناك، وعمل أستاذاً للدراسات الإسلامية في جامعة البنغال بالهند في الفترة من 1929 وحتى 1933، وشغل منصب رئيس المعهد الشرقي في بودابست عام 1941، وعُيّن رئيساً لقسم اللغة العربية بكلية العلوم والفنون بجامعة بودابست عام 1944، كرمه السلطان العثماني محمد السادس (1861 - 1926م)، وأصبح في 1961 عضواً في مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة، ودعاه الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود (1906 - 1975م) عام 1965 لحضور المؤتمر الإسلامي في مكة، وتم اختياره عضواً بمعهد الأبحاث الشرقية بلندن عام 1972.
دافع جرمانوس عن اللغة العربية وآدابها، ونال عضوية العديد من المجامع العلمية للغة العربية في كل من دمشق وبغداد والقاهرة 1962.
ترك جرمانوس مؤلَّفاتٍ عدة في علوم اللغتين العربية والتركية والأدب العربي، وعدة دراسات عن الهند، منها: (تاريخ الأدب العربي)، (أضواء الشرق)، (اكتشاف الجزيرة العربية وسوريا والعراق)، وكتاب (الجغرافيون العرب)، ومذكراته عن رحلته إلى الحج دونها في كتاب من جزأين يحمل عنوان (الله أكبر) ترجم لعدة لغات.
حبه للغة العربية الفصحى
جمعت بينه وبين الكاتب الكبير (محمود تيمور) (1894 - 1973) علاقة وطيدة، وهو كاتب قصصي ومسرحي وروائي مصري، ألَّفَ ثلاث مسرحيات باللغة المصرية العامية، وكان قد أهداها إلى (جرمانوس) ليعلن له في خطاب رقيق أنه ألفها بالعامية لرفع مستوى الثقافة ووعي الشعب المصري.
فجاء ردّ جرمانوس بـ: (إن العامية لغة حديث فقط ولا تتسع إلى تصوير الخلجات العميقة، وكشف السرائر الغائرة في الأعماق كما تتسع الفصحى لرسم أدق النوازع في إبداع).
أُعجب محمود تيمور بشخصية جرمانوس ومنه استوحى قصة (المستعين بالله) في مجموعته القصصية التي سماها (خلف اللثام) وهي تحاكي قصة تجول سائح أتى إلى القاهرة وسكن في حي الحسين يلتحف بعباءته البيضاء حتى يطوف بالحي في ملابسه العربية الفضفاضة حريصاً على أن يصلي الفجر بالمسجد وأن يرتشف صوت المؤذن في سكون الليل.
ولم يكن محمد تيمور وحده الذي تأثر بجرمانوس بل محمد حسين هيكل أيضاً، فقد سجل هيكل في مقدمة كتابه (في منزل الوحي): وجعلت أدير شارة الراديو على محطات مختلفة حتى كانت (بودابست)، وكانت أوَّلَ عبارة تنفست عنها الإذاعة قول المحاضر (وسط هذه الجموع الحاشدة حول الكعبة جعلت أسمع: الله أكبر، الله أكبر: فلما انتهيت من الطواف ذهبت أسعى بين ربوتي الصفا والمروة..) فقلت في نفسي: أو يكون هذا الأستاذ الأوروبي حديث العهد بالإسلام أصدق عزماً مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟! وهنا يتحدث جرمانوس في الإذاعة عن وصفه لمناسك الحج التي عاش فيها أثناء زيارته.
ومن شدة ولهه وعشقه بالعربية نطق ببعض الكلمات لحظة وفاته بالمجر في 7 نوفمبر عام 1979م قال: (لقد تمنيت أن أعيش مئة عام لأحقق كل ما أرجوه لخدمة لغة القرآن الكريم، إن دراسة لغة الضاد تحتاج إلى قرن كامل من الترحال في دروب جمالها وثقافتها).

ذو صلة