لا يزال الكاتب الكولومبي (جابريال جارثيا ماركيز) يثير الدهشة حتى بعد رحيله، وهو الروائي المؤسس لمذهب الواقعية السحرية في الكتابة الروائية والقصصية، والتي انتشرت بفضلها رواياته ومجموعاته القصصية، ولاسيما رائعته (مئة عام من العزلة) في كل أنحاء العالم وكانت سبباً لمنحه نوبل في الأدب.
المثير للدهشة هو طباعة آخر روايات ماركيز (نلتقي في أغسطس)، التي أوصى وبشكل مباشر بعدم طباعتها ونشرها بعد موته، إذ إنه كتبها في فترات تدهور حالته الصحية بعد إصابته بالزهايمر، وكان قد راجع مسودتها خمس مرات قبل أن يقرر عدم نشرها.
إلا أن الرواية الصغيرة نشرتها أسرته بالفعل، وترجمت على الفور إلى عدة لغات، وقريباً تتاح باللغة العربية.
تدور أجواء الرواية عن امرأة في منتصف العمر، تسافر سنوياً إلى جزيرة دُفنت فيها أمها، وذلك لزيارة قبرها، وفي كل مرة تدخل خلال شهر أغسطس في مغامرة عاطفية جديدة، رغماً عن استقرارها الأسري الذي لا تواجه فيه أية مشكلة تدفعها لهذا الطيش المتأخر، والمعبر عن أزمة منتصف العمر بفجاجة صارخة.
رواية تشبه في فكرتها إلى حد ما قصة (سرج الحصان) للكاتب الأمريكي (جون شتاينبك)، التي كان بطلها يتحلل من التزاماته الأسرية، ووجاهته الاجتماعية التي تلزمه بها زوجته بصرامة، وتدفعه لأن يشد ظهره بسرج حصان حتى تبدو قامته منتصبة مهيبة طوال الوقت غير محنية، مع السماح له بشهر واحد في العام يقضيه خارج البلاد، يتحلل فيه من التزامات الوجاهة، ليمضي وقته خلال هذا الشهر في أشد أنواع المغامرات طيشاً ومجوناً.
أثارت رواية ماركيز، المنشورة على غير إرادته حياً وميتاً، عاصفة من الجدل، ما بين مؤيد لنشرها ومعارض، من ضمن أوجه المعارضة أن أبناء (ماركيز) يستغلون اسم أبيهم التجاري في كسب المزيد من المال، فضلاً عن النفس الماركيزي غير الواضح في الرواية، أما مؤيدو النشر فحجتهم أن النص (أي نص) هو ملك للمتلقي في النهاية.
السؤال الجوهري هنا: ما الحد الأخلاقي في تنفيذ وصية الكُتاب في عدم نشر أعمالهم أو بعضها بعد موتهم؟ والتي تكاد تكون ظاهرة في كل الأمم وبكل اللغات قديماً وحديثاً. فكثير من شعراء العرب أوصوا ذويهم بحرق أشعارهم بعد موتهم، وكذلك فعل كثير من الكتاب، أبرزهم فرانز كافكا الذي نشرت مؤلفاته كلها بعد موته، لتحقق صدى أدبياً هائلاً، والتي قد أوصى بشكل قاطع بحرقها. يبدو أن لا إجابة ولا حد فاصل على هذا السؤال، خصوصاً وأن النصوص المنشورة رغماً عن أنف كاتبيها الراحلين، هي نصوص شديدة الفرادة والإبداع ما يتبخر معه أي سؤال عن الجدوى الأخلاقية.
لكن، المفارقة العجيبة، في أن الذين يقولون أين النفس الماركيزي في النص الأصلي؟ يغفلون عن حقيقة، وهي أن معظم النصوص الغربية لا يمكن أبداً الجزم بِنَفس المؤلف الأصلي فيها، إذ تعد صناعة الكتابة والنشر في الغرب غير عالمنا العربي تماماً. ففضلاً عن دلال الكاتب هناك مادياً واجتماعياً كما نجوم السينما والغناء هنا، فإن قواعد صناعة النشر هناك صارمة من حيث حقوق الكاتب المادية، والتي أدخلت بعض الكُتاب نادي المليار دولار من أوسع الأبواب مثل (جي كي رولنج) مؤلفة سلسلة (هاري بوتر) و(دانيال ستيل) صاحبة رواية (خمسة أيام في باريس). وهو أمر نعجز نحن الكُتاب عن استيعابه في عالمنا العربي.
في الغرب يتفرغ الكاتب لولادة النص الأصلي، أو على الأحرى الفكرة الأولى، فيما تتولى دور النشر معالجة النص أسلوبياً وملء الفراغات والفجوات في بنية النص عن طريق ورشة من المحررين الأدبيين، فيما تتولى فرق أخرى عملية التسويق من مهرجانات دعائية، وإعلانات، وحفلات توقيع وغيرها، ليطفو سؤال: ما الذي تبقى من الكاتب أسلوبياً؟
بشكل شخصي أتمنى أن يكون الكاتب في وطننا العربي مدللاً بهذا الشكل المادي والمعنوي، دون الاقتراب من النص أسلوبياً. هذا ما لا أظن أن كاتباً هنا يتسامح فيه، إذ كيف يتميز كاتب عن كاتب، ونص عن نص؟
ينقصنا هنا التعامل مع حرفة الكتابة بشكل أكثر احترافية، يجعل منها صناعة قائمة تدار بمؤسسات فاعلة، تضمن حياة كريمة للكاتب، ودخلاً للناشر يجعله لا يطمع في أرباح الكاتب، وشريحة جماهيرية مستهدفة لرفع حالة الوعي الفكري لديها، وهو ما يحققه الآن كتاب يشتهرون على وسائل التواصل الاجتماعي، يتفاجأ بهم الوسط الكتابي والإبداعي وكأنهم طفوا فجأة، مثلما حدث مع الكاتب السعودي (أسامة المسلم) في معرض الرباط بالمغرب العربي حيث شهد تظاهرة استقبال لم يحظ بها كاتب عربي، وبعيداً عن محتوى ما يقدمه (المسلم) الذي أدرجه الكثيرون تحت مسمى (البيست سلر)، فإن تظاهرة كهذه تعكس جهداً تسويقياً محموداً للكاتب، الذي نجح في اجتذاب شريحة جماهيرية هائلة، وهو ما يغيب عن كبار الكتاب والمفكرين لدينا.
لذا يعد التسويق الجيد سواء الفردي أو المؤسساتي مهماً وعملياً للنأي بالكُتاب عن سرديات العوز المادي وقلة الاهتمام والتباكي على انعدام الوعي المجتمعي لدورهم، وهذا أيضاً شرط مهم لأن تتحول صناعة الكتابة والنشر عندنا إلى ضروريات كما في الغرب وليست رفاهيات أو كماليات.