إن أي فعل جمالي على اختلاف سماته الفنية ودلالته الثقافية ما هو إلا تحريض على إزالة السخام المستشري في هذا العالم، ولعلي أجد أنه تربية للروح وخلق سياق أخلاقي من المفترض أن يتسم به الإنسان، وقد لا أكون مبالغاً إذا قلت إن ما وصلنا عبر التاريخ البشري وما صدر لنا من نتاج الحضارات كان يستقرئ البعد الإنساني ويستعلم عن جوهره
فلو تتبعنا أثر البلدان وما نتج عنها من اعتبارات قيمية لأثارنا أن نتوقف عند صورتها الجمالية والمعرفية وهنا يبان إيضاح الغاية التي كُتبتْ من أجلها هذه المدونة والأسباب التي ما زالت تجعل روحها تنبض بالحياة، ولا غرابة في أن أشير بالرفعة التي سُجلت بها هذه الأعمال كونها صورة حية لواقع الشعوب وما يتضمنه من نزعات فكرية وأيديولوجية بل حتى نفسية واجتماعية، والشواهد كثيرة على كم النتاج الأدبي والفكري الذي بقي محافظاً على أصالته على مر الأزمنة، لكن بودي أن أعيّن الأعمال التلفزيونية الدرامية التي اتخذت منحى مغايراً في تربية الذات وإعطائنا سنناً وقوانين أخلاقية باستطاعتها أن تخلق منظومة ثقافية للأسرة، ولعي أنوه إلى حلقات درامية على اختلاف غرضها وماهيتها شكّلت درساً تعليمياً في تنظيم بنية المجتمعات وتقوية آصرته، ومن هذه الأعمال (يوميات الإجازة)، العمل الدرامي الفني الذي عرض في عام 1992 على شاشة التلفزيون العراقي تأليف عبدالباري العبودي، إخراج عماد عبدالهادي، وبطولة الفنان محمد حسين عبدالرحيم والفنانة الدكتورة هناء محمد، لا أريد أن أدخل في التقييم الفني والتكنيكي للعمل بقدر ما أنظر في حقيقة البعد الإنساني والأخلاقي الذي نتج عنه، على الرغم من أن المعالجة أتت باسترسال كوميدي عفوي غير متكلف، فضلاً عن التوظيف الدرامي المؤهل لبيان صورة الحدث وتعيين نقاط إضاءة المشهد على وفق الوعي التربوي الذي يتمتع به الواقع وقتئذ، وهنا إشارة إلى عوامل عديدة استطاع العمل أن يبرزها بوصفها صورة ثقافية نستدل عن طريقها على هوية الواقع منها: (الملبس، اللغة واللهجة التي تتخذها الأسرة كوسيلة للتفاهم وإيصال الفكرة، طبيعة المزاج العام وهاجس المشهد في الكيفية والتقويم).
فلو استقرأنا العدة التي رممت هذا العمل وعمدت رؤاه لوجدنا أن السبب يرجع إلى توجهات المجتمع ومرجعياته الواعية ليكون الحدث الدرامي المتسلسل دالة ثقافية ونسقية معلنة تكشف عن السمات التي كانت مصاحبة للواقع، ولعلنا نجد أن الصفات القيمية التي تعزز مكانة المجتمعات من السلوك وطريقة التعامل وماهية الحوار جاءت عبر منظومة ثقافية كانت تسود المجتمع وقتها، فقد استوفى العمل المعيار الأخلاقي علاوة على مجاراته للأبعاد الإنسانية التي تهدف إلى تعزيز دور الفن ومقامه بين الشعوب، وهنا أجد أن ثمة مسؤولية بالدور الذي يمثله الفن على الرغم من الظرف الذي يمر به العراق وقتها، لكن العمل المقدم يخرج بعناية تتضمن سياقاً مؤثراً على ماهية المجتمع بل حتى طريقة التعاطي مع مجريات الواقع وما يضمره أيضاً وما ينعكس على ذهنية المشاهد، وقد أكون مقترباً من الحقيقة إذا قلت إن هناك عناية فائقة بالأفكار المقدمة وعرضها على الشاشة، ومما لا شك فيه أنك تجد الدرس الوعظي الذي يطرحه العمل فترى معمارية المشهد التمثيلي غير مترهلة تحاول جاهدة أن تظهر الوجه الناصع للمجتمعات، فضلاً عن تباين الحالات التي تعرّض لها الفرد وعلى كافة المستويات الاجتماعية.
أما فيما يخص العمل الآخر هو متوالية (يوميات ونيس) الذي تضمن ثمانية أجزاء بدءاً من عام 1994، تأليف مهدي يوسف، وأسهم في الكتابة الممثل محمد صبحي الذي أخذ دور البطولة بمعية الراحلة سعاد نصر ومن إخراج أحمد بدر الدين، نجد أنه منذ العتبة الأولى للدخول (الطابور الصباحي) إشارة إلى رسم سياق عام لأفراد الأسرة بأن يكونوا منتظمين في يومهم وأن يحرصوا على الجانب الإنساني في تعاملهم، فضلاً عن الأمور التي من المفترض أن يتمتع بها أبناء تلك المرحلة.
حرص العمل على إثارة زوايا إنسانية ومعالجتها بطريقة هادفة، وقد نتجت عن طريق بعض من المشكلات التي تعرض لها أفراد العائلة، كان بطل العمل يتصرف وفق الحوار الخاص به لكنه يضفي طابعاً قيمياً غايته تعضيد فعل الخير ونشر التسامح في المجتمع، علاوة على الباعث الأخلاقي وبثه بين أفراد العائلة من كبيرهم وما دون، ولعلنا نحصي الاعتبارات التي ترتبت عليها عائلة ونيس، فنجد علاقة رب العائلة بعميدها (أبو الفضل)/الفنان الراحل جميل راتب، كذلك علاقة الأحفاد بأبيهم وبجدهم أيضاً، وهذه الأواصر ما هي إلا انعكاس لدراما متقدمة غايتها منح دروس تعليمية في إطار فني، وقد نوكل اهتماماً إلى الدور العظيم الذي تلعبه الفنون على اختلاف مساراتها، وهذا ما نلاحظه في أغلب البلدان التي اتخذت المشاريع الجمالية والفكرية مشروعاً تنويرياً بل تصحيحياً لحياة الشعوب.
حقيقة الأمر أن السؤال الأكثر تشكيكاً في هذه الدائرة، لماذا لا نجد أعمالاً تتخذ منحى قيمياً غايتها الأسرة تحديداً وإضاءة بعض من السياقات الأخلاقية والتربوية التي تهدف إلى تشريح المفاصل المكونة لطبيعة المجتمعات العربية، قد تكون هناك أعمال من هذا القبيل لكنها تمر مرور الكرم بسبب الاكتساح التكنولوجي من دون رقابة والذي أكل ذهنية المتلقي وجعله شارداً.
لعل المقارنة بدت صعبة بل مستحيلة في ظل هذا الأوان المتسارع الذي طغت عليه مقاطع (الريلز) والثقافات الدخيلة التي جرفت المفاهيم وبددت الكثير من المنظومة الثقافية التي نشأ عليها، وقد تكون هناك مفارقات أخرى لها أبعادها الفكرية على المجتمعات التي ترعرعت في العالم المكتظ والمزدحم بالسوشيال ميديا بأنها تعاني من سهولة في استحصال المعلومة وصعوبة في التلقي وهذه من أهم الأزمات المعرفية التي يعاني منها المواطن الحالي، لذا أجد أن هذا الخلل في تشكيل نظام مفاهيمي جاد انسحب على إدارته لشأنه أيضاً، فلم يكن بمقدوره السيطرة على يومه بحسب ما يريد والتحكم بزمام الوقت، لتفرض عليه الكثير من التعليمات من دون أن يسيطر على جهازه الذهني في حجبها أو رفض غرضها، فتستولي عليه سياقات خارجة عن مساره الطبيعي ليؤسس يومه على هذه المغايرة وإن كان غير مقتنع بها، وهنا تكون المغايرة في المظهر واللغة والذوق وسماع الأغنية ومشاهدة العمل السينمائي أو الدرامي بل حتى في نوع الأكل لتصبح ظواهر ثقافية اعتيادية وإن كانت غير مؤتلفة جوهرياً مع حقيقة الكائن البشري