يُعرف الرأي العام بأنه الاتجاهات ووجهات النظر المُعبر عنها بواسطة الجمهور العام حول القضايا العامة. ويمكن القول إن الرأي العام يعبر عن (ماذا تريد الشعوب)، والسياسات العامة تعبر عن (ماذا تفعل الحكومات). وكلما ضاقت الفجوة ما بين الرأي العام والسياسات العامة يكون المجتمع في حالة تجانس وتوافق وثقة متبادلة بين الحاكم والمحكوم تسمح بزيادة المشاركة، وترفع من درجة الإحساس بالرضا وتفهم التحديات والاستعداد لتحمل الأعباء، ومن ثم تُقلل من احتمالات تصدع المجتمعات حتى في أحلك الظروف وفي ظل أعتى التحديات. وهو ما يجعل القياس الدقيق والدوري لاتجاهات الرأي العام على درجة كبيرة من الأهمية.
ولعله ليس من قبيل المبالغة القول إن الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية هي سبب نشأة قياسات الرأي العام، وهي سبب الاهتمام المتزايد بمنهجيات قياسه وما ارتبط بالقياس من إسهامات نظرية في علم الإحصاء، وبث الروح في هذه الإسهامات من خلال تحويلها إلى تطبيقات عملية رفعت من إمكانية توظيف هذه الاستطلاعات في اتخاذ القرار وفي التنبؤ بالمستقبل في بيئة تتسم بعدم اليقين.
وأصبحت قياسات الرأي العام صناعة قائمة بذاتها، تشعبت روافدها لتتجاوز محاولة التنبؤ بنتائج انتخابات رئاسية. واستحدثت هذه الصناعة منتجات جديدة جاءت استجابة لطلب متزايد في التعرف على اتجاهات الرأي العام في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية التي لا يستطيع أي سياسي إغفالها ما دام قد قرر التصدي للعمل العام. ومن ناحية أخرى، فإن التعامل الواعي بين السياسي والمواطن لا يتحقق دون أخذ هذه الاتجاهات في الاعتبار. وفي النهاية فإن وجود مرآة صادقة تعكس آراء المواطن يسمح بإحداث تفاعل صحي بين الشعوب والحكومات، ويسهم في إرساء علاقة بين الحكومة والمواطن، يخرج منها الطرفان فائزين. حيث تعزز هذه العلاقة صياغة سياسات عامة أكثر إنصافاً تؤدي إلى درجة أكبر من الرضا الجماهيري. وهذا الرضا الجماهيري يؤدي إلى زيادة الثقة في الحكومات الناجحة.
يضاف إلى ذلك أن كثيراً من الدراسات الاجتماعية تعتمد على استطلاعات الرأي العام للتعرف على القيم السائدة في المجتمعات، ويشمل ذلك القيم الدينية وقيم المواطنة والاتجاه نحو الأقليات، كما تتناول قضايا مثل: دور الدولة، تمويل الرعاية الصحية، تمكين المرأة، القضايا البيئية، الهجرة، تعويض البطالة، وهي أمور كلها على درجة عالية من الأهمية لتقديم حلول لمشكلات تتسم بالتعقيد والتشابك فيما بينها.
كيف يتم قياس الرأي العام؟
عملية قياس الرأي العام تحكمها اعتبارات مهنية وأخلاقية استقرت في وجدان الممارسين، وأصبح الخروج عنها بمثابة إخلال بأصول المهنة، لا يمكن قبوله. وتلتزم مراكز استطلاعات الرأي العام العالمية بميثاق الأخلاق والممارسات المهنية الصادر عن الرابطة الأمريكية لبحوث الرأي العام (AAPOR)، والذي يحدد الجوانب المهنية والأخلاقية ومعايير الإفصاح التي يجب أن يلتزم بها العاملون في مجال قياس الرأي العام. وهناك عدد من الضوابط المهنية التي يجب تطبيقها بحرفية للوصول إلى قياسات دقيقة لظاهرة معقدة، حتى تأتي نتائجها مرآة صادقة للرأي العام. وتشمل هذه الضوابط ما يلي:
1 - صياغة أسئلة استطلاع الرأي على نحو واضح، وغير متحيز، وتجنب أي عبارات موحية قد تؤثر على رأى المشاركين على نحو يؤدى إلى تحيز في نتائج الاستطلاع.
2 - اختيار المشاركين في الاستطلاع بأسلوب احتمالي يسمح لأي مواطن بالظهور في العينة.
3 - اختيار حجم عينة مناسب يسمح بخطأ معاينة مقبول، وحساب خطأ المعاينة بأسلوب علمي سليم.
4 - حساب نسبة الاستجابة على أسئلة الاستطلاع، وتحديد الفئات التي رفضت المشاركة، وتأثير ذلك على النتائج.
أما الاعتبارات الأخلاقية فتتعلق بالحفاظ على خصوصية المستجيبين وحمايتهم من أي ضرر يلحق بهم نتيجة إبداء آراء قد تكون مخالفة للسياق العام، كما تتناول حقهم في المعرفة بأهداف استطلاع الرأي العام، والجهة القائمة على تنفيذه، والجهة الممولة للاستطلاع.
وتنوعت أدوات قياس الرأي العام عبر الزمن، ففي البدايات الأولى كانت الاستمارة البريدية هي الأسلوب الأكثر شيوعاً لجمع البيانات، وصاحبها المقابلات الشخصية، ثم تحولت صناعة قياس الرأي العام إلى المقابلات الهاتفية (الهاتف الثابت والنقال)، ثم استيفاء الاستبيانات من خلال الإنترنت. ويمكن القول إن مجال قياس الرأي العام وظف الطفرات المتلاحقة لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات لمصارعة الزمن من خلال اختصار الوقت، ولمصارعة المكان من خلال تقليل أثر المسافات، ولمصارعة محدودية العقل البشري من خلال اختزال صعوبات العمليات الحسابية. وظهرت مؤخراً محاولات لقياس الرأي العام من خلال تطبيقات الهاتف المحمول، كما تم إجراء عدد من التجارب للتعرف على اتجاهات البشر من خلال التسويق العصبي Neuromarketing والذي يستخدم التصوير العصبي Neuroimaging وأدوات القياس النفسي للكشف عن الأسس النفسية العصبية لاتخاذ القرار ولفهم السلوك البشري. وهو مجال من المتوقع أن يستخدم في قياس الرأي العام، إلا أنه لا يخلو من تشابكات بالجوانب المنهجية، لاسيما مدى تمثيل العينة للمجتمع، ومدى التحيز الناتج عن اختيار مفرداتها، والجوانب الأخلاقية، لاسيما ما يتصل بخصوصية بيانات المستجيب.
وتجدر الإشارة إلى أن عملية قياس الرأي العام ليست دائماً بالأمر الهين، لأن الرأي العام قد يتغير من لحظة لأخرى، كما أنه غير متجانس، وكثيراً ما نلاحظ استقطاباً حاداً في نظرة المستجيبين لبعض القضايا العامة، نتيجة لاختلاف أعمارهم أو مستوى تعليمهم أو خلفيتهم الثقافية. كما أن عملية القياس تتعرض لأخطاء، ونفرق بين نوعين من الأخطاء: النوع الأول هو الأخطاء المتعلقة بقياس الظاهرة محل الدراسة، والنوع الثاني هو الأخطاء المتعلقة بتمثيل المجتمع محل الدراسة. والنوع الأول من الأخطاء يتعلق بالفجوة بين الاستجابات التي تم الإدلاء بها والاستجابات الحقيقية للمستجيبين، أي هي الفجوة بين ما تم رصده وما كان المفترض رصده من استجابات. أما النوع الثاني من الأخطاء فيعكس الفجوة بين ما تعكسه عينة المستجيبين ومجتمع المستجيبين. وعادة ما نسمح بهامش محدود لهذه الأخطاء، ومن الأهمية بمكان أن يكون حجم هذه الأخطاء تحت نظر مستخدم النتائج.
استطلاعات الرأي العام عابرة القارات
اقترن وصف (العابرة للقارات) عادة بالشركات العملاقة التي تتجاوز أعمالها دولة واحدة، ويمتد نشاطها الاقتصادي غير عابئ بحدود سياسية أو عوائق جغرافية، فلا تحده السياسة ولا تحجمه الجغرافيا.
كانت استطلاعات الرأي حتى وقت قريب صناعة محلية، ارتبطت منذ نشأتها بانتخابات رؤساء الجمهوريات أو انتخابات ممثلي المجالس التشريعية، وذلك في محاولة للتنبؤ المبكر بنتيجتها، وتوسعت مع الوقت لتحاول قياس الرأي العام والتعرف على اتجاهاته نحو سياسات أو قرارات أو أحداث معينة، وللتعرف على رغبات وأولويات وتطلعات الجماهير حتى يستنير بها السياسيون في تحقيق رضا شعبي، ويمكّنهم في الوقت ذاته من الوصول إلى سدة الحكم أو الاستمرار فيها لأطول وقت ممكن، وهي لعبة يخرج الجميع منها فائزاً: الجماهير بتحقيق تطلعاتها، والسياسيون بتحقيق أحلامهم.
ومن خلال قراءة متعمقة في استطلاعات الرأي العام الدولية التي قامت بها مؤسسات مثل جالوب (Gallup)، وبيو (Pew)، وإبسوس (Ipsos)، خلال السنوات الماضية؛ نجد أن هذه الاستطلاعات تركز على قياس اتجاهات الرأي العام تجاه عدد من القضايا السياسية والاجتماعية، مثل: التطرف، ومكانة المرأة، ودور الدين، والثقة في المؤسسات، ودور المجتمع المدني، وتوجهات الشباب، ودور الحكومات في تلبية احتياجات المواطنين. ويتم إجراء هذه الاستطلاعات في عدد من الدول، وتعقد المقارنات فيما بينها. وتجدر الإشارة إلى أن الموضوعات التي يتم اختيارها ليست عفوية، وإنما تتم في إطار أجندة بحثية متكاملة، وأن كل استطلاع هو مكعب يتم إضافته لاستكمال بناء معرفي عن اتجاهات الشعوب. وهناك دورية في تكرار الاستطلاعات، تؤكد أهمية الرصد التتبعي للظواهر التي تتصدى لها الاستطلاعات.
ويتيح تحليل نتائج هذه الاستطلاعات ثروة معرفية ضخمة لمراكز الدراسات الإستراتيجية والسياسية ولمراكز صنع القرار، هذه الثروة المعرفية تسمح بالتعرف على اتجاهات الشعوب المختلفة والمقارنة فيما بينها، وقياس التفاوتات داخل كل مجتمع، والتطور الحادث فيه عبر الزمن، وردود أفعال الشعوب تجاه الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية، وهذه الثروة المعرفية تساعد الدول التي تملكها في التنبؤ بردود أفعال الأطراف المختلفة في الصراعات والتوترات الإقليمية. وترجع أهمية هذه الاستطلاعات إلى أنها تعطي صورة عن التفاوتات القائمة بين اتجاهات الشعوب المختلفة نحو بعض القضايا الحاسمة، وتتابع التغير في هذه الاتجاهات، وتربط بينها وبين الأحداث الدولية والإقليمية على نحو يفيد المراكز التي تصنع مستقبل العالم. وهذه المعرفة في حد ذاتها تعتبر بمثابة قوة ناعمة تسمح بتحقيق المصالح دون استخدام القوة.
قياس الرأي العام في العالم العربي
استطلاعات الرأي هي صناعة وليدة في العالم العربي، يجب احتضانها وتنميتها وزيادة الوعي بأهميتها، واستثارة الطلب المجتمعي على خدماتها، وخلق البيئة الصحية التي تسمح بوجود كيانات مستقلة تتوافر لها المصداقية والحرفية، تتنافس من أجل المساهمة في تنشيط أحد الآليات المهمة في الإسراع بتحديث المجتمع. وحتى يحدث هذا التحول الإيجابي، ليستفيد منه الجميع؛ هناك عدد من الخطوات المطلوب تنفيذها، وتتطلب بصيرة لا تخلو من الشجاعة، وهي:
1 - تشجيع إنشاء مؤسسات مستقلة لاستطلاع الرأي العام.
2 - وضع ضوابط أخلاقية ومهنية لعمل المؤسسات العاملة في مجال استطلاعات الرأي العام.
3 - تشكيل هيئة عليا غير حكومية من شخصيات عامة لها استقلالية تراقب التزامها بالاعتبارات المنهجية والأخلاقية.
وهذه الخطوات يجب أن يُنظر إليها باعتبارها حزمة من الإجراءات المتكاملة التي لا تتحقق بدون رغبة حقيقية في تحديث المجتمع ومؤسساته. وانتشار ثقافة استطلاع الرأي العام هي في ذاتها عملية تحول لا يستجيب لها الجميع بنفس السرعة، وسرعة هذا التحول تعتمد على هامش حرية التعبير، وعلى حماية المستجيب، والحفاظ على سرية بياناته.
وفي النهاية فإن نتائج استطلاعات الرأي العام لا تعبر بالضرورة عن الحقيقة المطلقة، وإنما تعكس مدركات المستجيبين لهذه الحقيقة، وفي بعض الأحيان يكون إدراك الأشخاص مختلفاً لنفس الأمر، وفي جميع الحالات قد تكون مدركات الحقيقة أكثر أهمية من الحقيقة نفسها (Facts are facts but perception is reality).
*الرئيس التنفيذي للمركز المصري لبحوث الرأي العام ووزير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات الأسبق