مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

استلهام التراث الشعبي في المسرح العربي.. قراءة أولية

 قدمت هذه الورقة لأول مرة في ملتقى النص المسرحي السعودي (الدورة الأولى) في 28-30 / 7/ 1431هـ، الموافق 10-12 /7 /2010 م، وقد عدت إليها مرة أخرى بمناسبة محاضرة تمت بدعوة من الجمعية السعودية للمحافظة على التراث في 14 مايو 2019م الماضي، وقد أعود لها مرة ثالثة؛ ليس لأهمية الورقة، بل لأهمية الموضوع ذاته، والذي لايزال محل جدل لدى المسرحيين العرب وليس السعوديين فقط.
غير إن ضرورة البحث تقتضي الإضافة والتعديل بما يلزم من تغييرات حدثت في المشهد الثقافي بشكل عام والمسرحي بشكل خاص، من أهمها:
أن المسرحيين أنفسهم قد أدركوا الآن أكثر من أي وقت مضى بأن التوجه نحو التراث في السابق كان عاطفياً أكثر منه موضوعياً، وقد شابه الكثير من الحنين إلى الماضي، وليس إلى التراث نفسه كقيمة فكرية وفنية معاصرة.
وثانياً: ما جرى من تحولات في النظريات الحديثة، ومنها بشكل خاص مفهوم ما بعد الحداثة التي أعلنت القطيعة مع المرجعيات الكبرى بما في ذلك التراث، لكنها ما لبثت أن ركزت على أهمية الخصوصية والانفصال عن المركز كمرجعية فنية وثقافية للثقافات الأخرى، وبالتالي فإن التخلي عن المرجعيات لا يعني التخلي عن التراث في الثقافة الجديدة، بقدر ما يعني أن تكون ملهمة لتحقيق الأصالة والمعاصرة للتحرر من سلطة الثقافة المركزية.
ولكن كيف يتم ذلك؟ كيف يمكن للتراث أن يكون ملهماً للعصر والحداثة معاً، من دون أن يتملكنا الحنين إليه، ومن ثم تخيله والانغماس فيه وجدانياً وعاطفياً فقط.
وبعبارة أخرى كيف يتم فرز التراث وتقييمه فكرياً وفنياً، وبالتالي إخراجه من حالة السكون في وعينا للاستفادة منه في مسرحنا الحديث؟
في لسان العرب يتم تعريف كلمة استلهم بمعنى استوحي من الإلهام والوحي. واسْتَوْحى الشيءَ: حرَّكه ودَعاه ليُرْسِله.
والوَحْيُ هو: الإِشارة والكتابة والرِّسالة والإِلْهام والكلام الخَفِيُّ وكلُّ ما أَلقيته إِلى غيرك. يقال: وحَيْتُ إِليه الكلامَ وأَوْحَيْتُ.
وبناء على كلام العرب في معجمهم يمكن القول بأن فلان استلهم التراث أي أنه استوحاه أو شيئاً منه للكتابة أو للكلام.. إلخ.
ومن تعريف الكلمة (استلهم) البادئة في عنوان هذه الورقة يمكن الوصول إلى فهم أعمق للفرق بينها وبين كلمة (اقتبس) التي تضلل دائماً البعض لمعرفة ما يجري أثناء التعامل مع التراث بشكل عام وفي المسرح والدراما بشكل خاص، حيث يعرف لسان العرب الكلمة اقتبس بعد تحويلها إلى أصلها قبس ومعناها النار، فالقبس الشعلة من النار، واقتبست أي أخذت شعلة منها، واقتبس بمعنى أخذ من الشيء.
والفرق هنا واضح ودقيق بين المعنيين، فالفعل اقتبس بمعنى أخذ، ويشير إلى الشيء المحدد تحديداً أو تجسيماً، حيث يمكن أن نصف القصة أو الحكاية أو الرواية كشيء من التراث في النص المسرحي بأنها مقتبسة له منه. أي من التراث مثل مسرحية: الفيل يا ملك الزمان لسعدالله ونوس من ألف ليلة وليلة، أو من التراث الديني كمسرحية أهل الكهف لتوفيق الحكيم المقتبسة من القرآن الكريم.
أما الاستلهام فهو فعل لا يمكن تحديده غالباً بموقف تاريخي ثابت أو حكاية شعبية معينة، أي ليس له ملامح معروفة ومحددة مسبقاً بقدر ما هو رؤية فكرية متأثرة بمحتوى التراث وقيمه الإنسانية.
بعد التعريف المسبق يمكن الدخول إلى الموضوع بطريقة أكثر شفافية، حيث يمكنني أن أصنف بثقة علاقتي الشخصية بالتراث في النص المسرحي بأنها من النوع الأول. أي من الاستلهام.
كان ذلك الإحساس الواعي بسكون التراث الشعبي في تفكيري وفي علاقتي بالفن قد بدأ يتشكل بالفعل أثناء وبعد كتابة نص مسرحية المغني فرج عام 1999م، أي بعد ثلاثة نصوص مسرحية سابقة عليه، وقد عشت في كتابته تجربة مثالية ممتعة أتاحت لي فرصة التعبير كثيراً عن مدى احترامي للتراث الشعبي والاستفادة منه دون الشغف به، فكنت ممتناً لهذا النص الذي حاولت فيه كشف الخلل والتناقض الحاصل في ثقافة مجتمعنا والتي تطورت بسرعة إلى ما يشبه حد القطيعة مع التراث وبموروثه الفني بشكل عام والغناء الشعبي بشكل خاص، حتى أنه لم يعلم إن كان مطربهم المفضل سابقاً فرج قد مات بالفعل أم أنه لايزال موجوداً على قيد الحياة بينهم.
هكذا يمكنني النظر بتواضع إلى تجربتي النصية المسرحية الخاصة في علاقتها بالتراث الشعبي والتراث العربي عموماً، وقد سبقني إلى ذلك في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال الأستاذ محمد العثيم وعبدالرحمن المريخي رحمهما الله اللذان استلهما من التراث أغلب أعمالهما المسرحية، حيث كانت التجربة العملية في الكتابة هي الاختبار الأول لمعرفة الذات وتكوينها الثقافي والمعرفي بالتراث، بعدما كان ذلك في البداية مجرد استلهام عاطفي أو عفوي، ورغم أهمية هذا الاكتشاف إلا أنه لم يكن كافياً في الحقيقة لفهم الجدلية الصعبة والمستمرة بين مفهومي التراث والحداثة أو بين التراث والمعاصرة. حيث لا مفر في اعتقادي لأي كاتب مسرحي يود أن يستلهم من التراث من الخوض بالضرورة في العلاقة المضطربة دائماً بين المعنيين لتحقيق التواصل والاتصال الصحيح بين الماضي والحاضر أو بين التراث والمعاصرة.
إن الاندفاع نحو التراث من وراء العاطفة فقط والإحساس بالانتماء أو الرغبة في توظيفه ليس إلا، لن يقدم في أحسن الأحوال سوى نتائج ساكنة وربما عكسية مسطحة هي أقرب إلى ردود الأفعال العابرة منها إلى نتائج ثابتة ومفيدة وقابلة للاستمرار في الحياة وهو الأهم.
فإذا كان التراث هو المقصود في ذاته لتحقيق هوية المسرح الذي ننتمي إليه سوف يلزمنا ذلك بالضرورة الوعي بالتراث نفسه حتى نستطيع أن نستخلص منه الأهم والمفيد في خصوصيتنا وما يميز الفن الذي نقدم. لأننا في الغالب جميعاً واقعون تحت تأثير التراث الساكن فينا وليس العكس، ومن دون الوعي بهذا الشيء المسمى تراث سيكون من الصعب بل من الخطأ أحياناً كثيرة التعامل معه.
فالتراث لا يعني كل ما تركه لنا أسلافنا وأجدادنا من قبل؟ بمعنى الثقافي والفكري والديني والأدبي والفني، ويكاد هذا التعريف لا يعني شيئاً واضحاً لنا، والحقيقة الوحيدة المقابلة لذلك هي: أن إيجاد تعريف محدد وواضح لمعنى التراث يفرض سلفاً أن التراث لدينا واضح المعالم وجلي جلاء الحقيقة. والواقع ليس كذلك، وما هو موجود سوف نجده يتمثل عبر مواقف وجدانية وأيدلوجية خاصة ومختلفة جداً لا تخدم هذه الغاية بل تصعبها.
والكلام نفسه ينطبق على كلمة معاصرة أيضاً، فهي لا تعني الغرب والحداثة الغربية، ولا تعني الإيمان بالعلم وبالعقل فقط.
وقد لا نجد التعريف المطلوب للتقريب بين مفهومي التراث والمعاصرة في جملة واحدة أو في معنى محدد. ولكننا نفهم بوضوح أن الحداثة والمعاصرة لا تعني بأي حال من الأحوال القطيعة مع الماضي أو رفض التراث. كما أن إشكالية المعنى في المعاصرة لا تعني الاختلاف معها كمفاهيم بقدر ما تعني أهمية إدراك أبعادها الحقيقية في تعاملنا المستمر مع العصر.
يقول المفكر عبدالله العروي في كتابه العرب والفكر التاريخي:
(لايزال التراث محتوياً لنا ولم نحتوه بعد)، ثم يضيف في السياق ذاته: (إن فصل الذات عنه.. أي التراث... كفيل بربط العلاقة بينهما بشكل صحيح).
ويقول الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه التراث والحداثة:
(إن نظرتنا للتراث، تعني بدورها أننا داخل حركة لا تعمل على إنتاج الجديد بل في إعادة إنتاج القديم، وفق تصورات ومفاهيم أيدلوجية وفكرية خاصة جداً، وتكاد تكون محض ذاتية).
إن هذه النقطة بالتحديد التي ذكرها العروي والجابري تعني بأن المشكلة لدى المؤلف المسرحي أو الدرامي بشكل عام هي في النظر أحياناً كثيرة إلى التراث كمادة ساكنة أو ثابتة ونهائية، وهو ليس كذلك مطلقاً، بل هي مادة متحركة ومتبدلة في الحقيقة من خلال موقفنا نحن من التراث نفسه وعلاقتنا به. وهذا الموقف هو الذي يفسر لنا تعدد القراءات واختلافها بل حتى تناقضها أحياناً في تناولها للتراث أو بعض حكاياته وحتى في وصف الحدث التاريخي الواحد. كما أنها تفسر أسباب التشطير والبتر والانتقائية في العديد من استلهامات التراث واقتباسه في المسرحيات العربية لغرض جعل تلك الموروثات منسجمة أو متوافقة مع ظروف الواقع واحتماله لها. والخطأ في ذلك هو أن هذه القراءات أو الاستلهامات مهما حاولت أو توصلت إلى نتيجة فهي لن تعكس سوى موقف معين، وهذا الموقف في النهاية لا يعدو أن يكون بُعداً أو معطى ذاتياً فقط مهما صاحبه من تبرير.
لذلك كله لا بد من توافر رؤية عصرية تتكئ على الكثير من المعرفة والوضوح العلمي والمنهجي للتعامل مع معطيات التراث بأشكالها وألوانها المختلفة سواء أكان من أجل المسرح أم غيره، وعلى المبدع المسرحي أن يعي جيداً ذلك ليحدد موقفه منه ما دام هذا التراث لم يعد يحمل قيمته الداخلية الحية بقدر ما يحددها هو له من خلال موقفه منه.
والخلاصة هي: أن المبدع المسرحي يلجأ إلى التراث لا ليمارس حنينه إلى الماضي بسبب فشله في الحاضر؛ بل لتوظيفه من خلال الرمز والإحياء، بهدف خدمة الحاضر والمستقبل فقط، والوعي النقدي بالتراث هو السبيل لتحقيق ذلك.
وبإلقاء نظرة موجزة على الجهود العربية في بحثها عن هوية للمسرح العربي من خلال التراث، والتي تتمحور دائماً حول اتجاهين مختلفين ومتنافرين هما:
الاتجاه الأول: يجاهد في البحث عن مسرح عربي من دون الانفصال تماماً عن المسرحي الغربي.
والاتجاه الثاني: يجاهد للبحث عن هوية مسرحية عربية من خلال القطيعة تماماً مع المسرح الغربي، والبحث في التراث للخروج من فلك التبعية الغربية والاستحواذ الحاصل في الشكل والمضمون المسرحي بالكامل، وهو بذلك تيار ينسجم أكثر مع القيم المتطرفة لما بعد الحداثة في التخلي عن المرجعيات الكبرى في الغرب تحديداً.
فيرى الاتجاه الأول أهمية استمرار العلاقة مع التراث الغربي والعالمي عموماً حتى في البحث عن المسرح العربي بوصف ذلك اتحاداً مع قالب إنساني عام، من خلال الاعتماد على الترجمة والاقتباس والتعريب.. إلخ، مثل: مسرح الريحاني- يوسف وهبي- زكي طليمات، ومن أبرز الرواد في هذا المجال الأستاذ توفيق الحكيم الذي دعا لإيجاد مسرح عربي خالص في كتابه (قالبنا المسرحي) الصادر عام 1967م في القاهرة. فدعا إلى إحياء مسرح الحكواتي والمداح المعروف في مصر، واستعان بالتراث في تأليفه العديد من النصوص المسرحية المهمة مثل: أهل الكهف- مصرع كليوباترا- شهرزاد، وحاول من خلالها تقليد المآسي الإغريقية العظيمة، إلا أن الحكيم وعلى الرغم من ذلك كان حذراً في الخروج على تعاليم وقوانين المسرح الغربي، حيث يقول: (إن القالب العالمي السائد هو حصيلة جهود متراكمة لكافة الشعوب على الأرض، واستخدامنا له فيمن استخدمه ليس فيه غضاضة، بل فيه النفع والدليل على وجودنا الحي في قطار الحضارة المتحرك).
 بينما يرى الأستاذ يوسف إدريس الذي طالب في حينه صراحة وبإصرار على القطيعة مع المسرح الغربي تماماً، والاعتماد على التراث الشعبي العربي في إحياء المسرح انطلاقاً من مفهوم: أن الفن الصحيح يجب أن ينبع دائماً من بيئته الخاصة وليس من غيرها. يقول يوسف إدريس (إن الفن ظاهرة إنسانية اجتماعية لابد لإنتاجها من بيئة معينة تتبع شعباً معيناً وتنتج من أجل ذلك الشعب).
ومن أشهر مسرحيات يوسف إدريس التي تمثل فيها استلهامه للتراث وتوظيفه بشكل كامل مسرحية (الفرافير) التي تعد بالفعل -لمن شاهدها على المسرح أو قرأها نصاً- خطوة رائدة ومتميزة في التجربة المسرحية العربية نحو هذا الاتجاه.
وهناك الكثير من التجارب في مختلف الأقطار العربية التي عاشت الجدل في البحث عن المسرح العربي من خلال استلهامها للتراث مثل: مسرح الجوال في الجزائر ومصر، ومسرح الحلقة في المغرب، ومسرح الحكواتي في سوريا عند سعدالله ونوس، ومسرح يوسف العاني في العراق.. إلخ من التجارب العربية التي لا يسمح المجال لذكرها كلها في هذه الأوراق. إلا أن التجربة الأكثر أهمية في استلهام التراث واعتباره مادتها الأولى والأساسية لبناء مشروعها المسرحي الخاص؛ كانت بلا شك تجربة الرائد الأستاذ (عبدالكريم برشيد) الذي أسس ورفاقه في المغرب العربي: الطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج وآخرون ما سموه بـ(مسرح الاحتفاليين)، وتنهض تجربته على إدراك ثلاثة أبعاد فكرية وفلسفية واضحة من الزمن نفسه كفعل وكحركة مستمرة في عملية التغيير والتطور هي: ( هنا والآن ونحن).. وعليه فإنه ليس الماضي وحده المتحرك بل الحاضر أيضاً متحرك عن مكانه لحاضر آخر غيره، وعلى هذا الأساس بنى المسرح الاحتفالي في المغرب مقوماته النظرية للانطلاق وباستمرار باتجاه المستقبل دون التوقف أمام المعوقات والحواجز التي اعترضته.
يقول برشيد ورفاقه في بياناتهم لهذا المسرح: (إننا لا يمكن أن ندرك ذواتنا خلال الآخرين، وأن التحرر من المركز الآخر المهيمن كفيل بأن يعيد للثقافة العربية وجودها وحقيقتها... ثم يضيف بالقول: إن الثقافة العربية المعاصرة وصلت إلى حد من الجمود، باتت معه مشلولة الحركة، وصارت خالية مما هو: آني وحقيقي وتلقائي وذاتي.. لذلك لابد من ضرورة:
1 - تحطيم الإبهار وإيهام الفن والخدع الفنية.
2 - الإيهام بالواقع... أي أن كل شيء يجب أن يجري أمام الجمهور من تغيير ديكور أو إكسسوارات.. إلخ.
3 - الربط بين مادة الماضي أي التراث ومعطيات الحاضر دائماً.
ومن أهم التجارب المسرحية للاحتفاليين هي: مسرحية عنترة في المرايا المكسرة ومسرحية عطيل والخيل والبارود، وجميعها من تأليف عبدالكريم برشيد، بالإضافة إلى غيرها من المسرحيات.
فهل حققت تلك التجارب أهدافها وأصبح لدينا مسرح عربي خالص، والأهم من ذلك السؤال: هل نجحت تلك التجارب وغيرها في العالم العربي في التعامل مع التراث الشعبي والتراث العربي عموماً بشكل ناجح وصحيح حتى الآن؟

ذو صلة