مجلة شهرية - العدد (581)  | فبراير 2025 م- شعبان 1446 هـ

صيغة المضارع والسرد المركب في الرواية العربية

لماذا يلجأ السارد إلى سرد أحداث الرواية بصيغة المضارع؟ تنقسم الإجابة عن هذا السؤال إلى عدة محاور، سنتناول أبرزها من خلال هذه المقالة. وهو أن الأمر في العمق يتعلق بالانتقال مما يمكن وصفه بالسرد البسيط إلى السرد المركب.
وتبيان ذلك أن لجوء السارد إلى اعتماد صيغة المضارع، بدل صيغة الماضي في الرواية، إنما يعكس ثقافة التلقي أكثر مما يعكس ثقافة الإلقاء، بمعنى أن السارد يقرأ ويكتب في نفس الوقت، فهو سارد وناقد إلى حد ما، إذ يستبطن افتراضاً بأن الحدث المسرود عنه قد تم استهلاكه من قبل، فهو إذن ينتقل باطنياً إلى درجة ثانية من السرد يشعر فيها -أو قد لا يشعر- بأنه يعلق على أحداث ليس بوسعها إلا أن تكون كذلك، إذ سبق له أن عاينها في مثلها (ربما) من خلال قراءاته المستمرة للأعمال السردية. فعلى سبيل التبسيط، إذا كتب الروائي مثلاً يقول: (سافر زيد، والتقى بأخيه في الخارج، فأخبره بما جرى...)، فإن القارئ الدارس أو الناقد إذا تناول هذا المقطع في معرض تحليله، فغالباً ما يأتي تعليقه على النحو التالي: (يسافر زيد، ويلتقي بأخيه في الخارج، فيخبره بما جرى..إلخ).
1. السرد الإبداعي البسيط
ولأن الأشياء تعرف بضدها كما يقال، فقد يبدو فهم الفكرة عسيراً بعض الشيء لو دخلنا مباشرة في صلب علاقة صيغة المضارع بالسرد المركب، دون أن نتعرف -ولو بعجالة- عن كيف يكون السرد المقابل، أي السرد البسيط، وكذلك سنستعمل عبارة (السرد الإبداعي) في مقابل (السرد النقدي). لتعريف السرد البسيط بدايةً سنأخذ مثالاً من رواية (أوراق) للدكتور عبد الله العروي، حيث يقول السارد في مستهل النص متحدثاً عن البطل إدريس: (وفي نفس الطبقة صفي الدين أبو العلاء إدريس بن إدريس الأديب الأصولي المطلع على أخبار الناس وأيام العرب. يقول الأستاذ اللبان إنه قرأ في كناشة بخط أحد أقربائه أن مولده كان ليلة الأربعاء التاسع عشر من جمادى سنة كذا على الساعة الثامنة والطالع عند ولادته من برج السرطان تسع درج. كان له صوت جميل. إذا جود وقف المارة على باب الزاوية المختارية عند لوية المرابطين من مسقط رأسه مدينة الصديقية المحروسة). وهكذا يستمر سرد الأحداث بصيغة الماضي وبسخرية محكمة التنكر في الجدية إلى قول السارد: (كان رحمه الله كريماً متواضعاً مع الفقراء والمساكين، صادق المحبة في الأشراف والأولياء، طيب المعاشرة مبارك الجوار. يؤدي الزكاة مما رزقه الله وكان قليلاً. فضل الخمول على الظهور حتى ظن البعض أنه مات وهو مازال يرزق...).
هكذا يكون ما نسميه بالسرد البسيط، حيث يحكي لنا السارد أحداثاً حصلت في الماضي وانتهت، وبذلك يترك في نفس المتلقي مهمة الخوض في تداعياتها الممكنة، والتي إذا علق عليها فيما بعد، فقد يأتي تعليقه سرداً مركباً، وبدل أن يوصف بأنه ذو مرجعية غير نصية، أي أنه يعكس أحداثاً اجتماعية، أو سياسية، أو اقتصادية، أو غير ذلك بصورة مباشرة؛ فقد يصح وصفه بأنه ذو مرجعية نصية مبدئياً، يتعامل مع الحدث من خلال الثقافة المكتسبة عن طريق التجربة القرائية.
2. السرد الإبداعي المركب
لو تسألنا لماذا يعمد الناقد عادةً إلى عرض (أو إعادة سرد) المقاطع السردية بصيغة المضارع، فإن الجواب سيقربنا أكثر من فهم الميكانيزمات العميقة التي تدفع بالروائي نفسه إلى اعتماد صيغة المضارع، كما سيتبين لنا بوضوح بعد قليل. الجواب هو أن الدارس/الناقد إنما يعيد كتابة شيء سبقه إليه غيره، أي أنه يعكس ثقافة التلقي، ويكتب نصاً قرائياً. وحتى لا يبدو كلامنا تجريدياً ربما، سنأخذ مقاطع كأمثلة نوضح الفكرة من خلالها بشكل ملموس، على أننا لسنا الآن بصدد تحليل هذه المقاطع الإبداعية (السردية) والنقدية، وإنما سنكتفي منها بتوضيح ما يبدو بحاجة إلى ذلك في موضوعنا فقط.
سنعود مرة أخرى إلى رواية (أوراق)، ونأخذ مقطعاً يندرج ضمن المضارع الذي يصارع الماضي داخل النص، حيث يقول السارد: (يبكي الفتى ضياع الهمة ويبكي الإمام ضياع الإيمان. يقود الشرذمة المحاصرة شيخ القبيلة، أب الفتى/ يظهر من حين إلى حين على الخشبة متبوعاً بغلامه وبالفرسان. تنبئ تصرفاته وأقواله أنه لا يرى فرقاً بين الحرب التي يقودها اليوم والحروب العديدة التي خاضها من قبل. يعتقد أن هذه قبيلة جاءت من بعيد لتغزو الوطن فعليه أن يدافعها بكل قواه/ يسأل غلامه عن عوائد الغزاة ويقول: هل يقبل رئيسهم المبارزة؟ يتفق الفتى وأبوه أول الأمر في حرصهما على مغادرة الكهف بأي وسيلة كانت، هذا ليتابع الكفاح ضد الجنود الغازية وذاك لاستئناف رحلته في اتجاه المغرب).
لو تأملنا بعمق هذا التصوير المضارع في رواية (أوراق) للعروي، سنجد أنه ليس سرداً بسيطاً طازجاً، بل هو قائم على ثقافة سردية مركبة، ويبدو أن مظاهر هذه الأخيرة واضحة أكثر لدى العروي، حيث وظف هذا التصوير المضارع في أقصوصة، أو عدة أقاصيص، ضمن روايته، ولكن هذه الأقاصيص تبدو مستقلة عن المجرى السردي العام للرواية، ويفترض أنها من تأليف بطل الرواية (إدريس)، غير أن اللعبة قد تبدو أكثر تشويقاً حين يقارن القارئ بين هذه الرواية (أوراق) وبين إحدى الدراسات النقدية التي سوف نشير إليها لاحقاً، ذلك لأن السارد في (أوراق)، بدل أن يسرد سيرة بطله بصيغة المضارع ويجعل إدريس يسرد أقاصيصه بصيغة الماضي، نجده يقوم بالعكس تماماً! وهذا كله في الواقع يثري النقاش حول موضوع (علاقة صيغة المضارع بالسرد المركب)، ويجعله أكثر تشويقاً.
إن السارد في المقطع السابق، لا يريد أن يحكي لنا المفارقة المضحكة بين بكاء الفتى وبكاء الإمام فحسب، بل يريد -علاوة على ذلك- أن ينقل إلينا نظرته (النقدية) إلى هذه الواقعة، وهي النظرة التي تناقض اعتماد صيغة الماضي تماماً، إذ بينما يبدو سارد الماضي عالماً بتفاصيل الحكاية قبل لحظة الحكي، يخبرنا سارد المضارع ضمنياً بأنه عالم بالتفاصيل المستقبلية لتداعيات هذه الأحداث، فكأن لسان حاله -بعدما حلل ودرس الحكاية- يقول لنا: (وهل بوسع الحكاية إلا أن تخبرنا ببكاء الفتى والإمام في هذه الحالة والحالات المشابهة؟).
لنأخذ مقطعاً روائياً آخر للميلودي شغموم، حيث يقول السارد: (أمشي حتى ساحة النصر، أقف في محطة سيارات الأجرة، أنتظر. تأتي امرأة تنتظر سيارة بدورها، نركب معا أول سيارة، خلف السائق. لا نختار أي اتجاه، لا نتكلم، لا يتكلم السائق. يكتفي السائق باختيار الاتجاه: شارع رحال المسكيني، شارع المعاني). أجل، وبلغة فيها بعض الرمزية نقول: إن سائق الحكاية (التي سبق سرد شبيهة لها في ذهن السارد) هو من يتعين عليه أن يجد لذاك السرد الطازج معنى، وليس البطل/السارد (الراكب) الذي يرمز -في مستوى من مستويات النص-إلى صاحب الحكاية الطازجة، والمقروءة من طرف السارد/الناقد/السائق!
3. السرد النقدي المركب
والآن، بعدما استعرضنا الأمثلة السابقة عن توظيف صيغة المضارع في النص الروائي، سنقترب أكثر من فهم الأبعاد الدقيقة لهذه الفكرة، وذلك من خلال إيراد أمثلة حية من النصوص النقدية، فإذا كان السرد البسيط الذي يشحن السرد المركب في ذهن الروائي يتم استحضاره بصفة ذهنية غير قابلة للرصد بالعين المجردة، فإن رصده ممكن في أداء الناقد الذي يسرد -من خلال دراسته النقدية- نصاً سردياً له وجود في الواقع ملموس، وليس مجرد صورة ذهنية تقوم على هضم وإعادة إنتاج المقروء السردي الخاضع لسلطة الماضي.
سنأخذ مقطعاً من قراءة نقدية لمحمد معتصم، حيث يقول: (في قصة (رحلة حب في قطار سريع) تنجلي هذه القضايا والتقنيات الكتابية. فالفجوة النفسية خلقت لحمة النص وشكلت حبكته. تركب فتاة القطار وفي المقصورة تجد نفسها وحيدة (البنية الأولى)، ثم يقتحم عزلتها شاب وسيم (البنية الثانية). ينغمس الشاب في القراءة ولا يرفع أنفه ولا عينيه عن السطور وهي تتوالى أمامه (البنية الثالثة). لكن داخل الفتاة يغلي، فكرها يخوض في الأحلام ومشاعرها تتمنى (البنية الرابعة)...).
هنا يطرح السؤال الذي سيقودنا البحث في الإجابة عنه إلى الكشف عن المكيانيزمات الموضوعية أو الذاتية التي تدفع الكاتب (مبدعاً كان أو ناقداً) إلى اعتماد صيغة المضارع في السرد: ما الذي جعل الناقد محمد معتصم يتحدث بهذا الشكل، (تركب فتاة/ تجد نفسها/ يقتحم عزلتها/ ينغمس..إلخ)؟. الجواب أن هناك قانوناً عميقاً يدفع بالأمور النصية في هذا الاتجاه، وهذا القانون يتمثل في أن الفعل السردي عندما يكون وراءه افتراض فعل سردي آخر يأتي مضارعاً! ولا يخفى عن القارئ أن الناقد (يسرد) من خلال المقطع السابق، وإن كان يجري دراسة نقدية، فهو يسرد قراءته للنص السردي المدروس. لنأخذ مثالاً آخر من دراسة أجراها الناقد عبدالجليل غزالة لأعمال القاص عبدالحميد أحمد، حيث يقول عن شخوص النص المدروس: الكاتب يصف لنا في عدة مواطن ما يدور في صدورها من دراما إنسانية، جعلتها الأقدار تواجه واقعها الأليم:
أ- (الرصيف يعج بالمارة والحرارة والضجيج والذباب والفرحة الصغيرة التي غمرت الجوف تتلاشى نهائياً). قد يكفي القارئ أن يقارن هنا بين قول الناقد (يصف لنا) وقول صاحب النص المنقود (غمرت الجوف تتلاشى نهائياً)، وله، بعد ذلك، أن يراجع الدراسة كاملة والنص المدروس أيضاً للتوسع في هذه المسألة. فبمنتهى البساطة، يمكن إدراج قول الناقد (يصف) ضمن نسق سردي نقدي، مقابل نسق سردي إبداعي/أدبي، والذي يمثله قول القاص: (غمرت الجوف تتلاشى نهائياً)، ولا بأس من أخذ مثال آخر من دراسة نقدية أجراها الناقد الجزائري نصر الدين بن غنيسة لرواية (الحي اللاتيني)، حيث يقول: (فها هي جانين تعترف بأنها أضحت فاقدة لإرادتها في حضرة حبيبها وفاقدة لرغبتها في تقرير مصيرها في غيابه: لقد طبعتني بطابعك، وسأظل أبداً أسيرة قيودك، إن مصيري تقرر منذ رأيتك، لم تبق لي إرادة، وسأجري مع الزمن كما سيتقاذفني الزمن).
تأمل قوله (ها هي جانين تعترف)، وقارنه بكلام صاحب النص المدروس، حيث يعطي انطباعاً بأن الأحداث التي عبر السارد عن بعدها الزمني بصيغة الماضي، يعبر الناقد عن قربها منه بقوله (ها هي)، فإن أداة الإشارة هذه تشير إلى اقترابه من الأحداث المسرودة بواسطة النص (تجربة قرائية) وليس بشكل مباشر، وهذا بالضبط ما يحدث -وإن بشكل معقد- على مستوى أداء الكاتب الذي يلجأ إلى اعتماد صيغة المضارع في سرد أحداث يفترض أنها صارت جزءاً من الماضي.

ذو صلة