مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

ممالك النار.. يثبت أن الفن أقوى من أي سلاح

أثار مسلسل ممالك النار الكثير من الجدل من قبل حتى أن يُعرض، فبمجرد إذاعة الإعلان التشويقي للمسلسل، حتى ظهر فريق كبير من المهاجمين على موقع اليوتيوب قدموا عدداً كبيراً من الفيديوهات التي تشكك في مصداقية المسلسل وتتهمه بتزوير التاريخ، وليس من التجنّي القول إن معظم ذلك الفريق إن لم يكن كله من المنتسبين عضوياً أو فكرياً إلى جماعة الإخوان المسلمين والتيارات الرجعية المتشددة، ولم يقف الأمر عند اليوتيوب، لكنه امتد إلى كافة مواقع التواصل الاجتماعي بل وحتى الإعلام الرسمي التابع لنفس التيار. بينما مؤيدو المسلسل باشروا بالدفاع عنه أيضاً بدون مشاهدته والتأكد من مستواه الفني ومضامينه، ومن البدهي أن يكون المؤيدون من المحور العربي المناهض للتسلّط التركي القطري في المنطقة، فالمسلسل من تأليف وبطولة مصرية ومن إنتاج إماراتي، ويعرض على قناة سعودية، وتم تصويره في تونس بمشاركة ممثلين من سوريا. إذن فتوقيت عرض المسلسل وموضوعه ليس بريئاً من البعد السياسي أو جاء من قبيل المصادفة، ولذلك لا يمكن تجاهل ذلك البعد عند القراءة النقدية للمسلسل.
هناك محوران كبيران إذن لا يمكن مناقشة المسلسل من دون التطرق لهما، أولاً هل هناك مانع من استخدام الفن في القضايا السياسية؟ وثانياً هل صناع أي عمل تاريخي ملزمون بحرفية ما جاء في كتب التاريخ؟ السؤال الأول سيحيلنا إلى تتبع تاريخ الفن بشكل عام، من قبل حتى اختراع الكاميرا، فلو عدنا إلى مهد الحضارة الإنسانية سنجد أن ملوك مصر القديمة كانوا يسجلون انتصاراتهم العسكرية بكل أنواع الفنون المتاحة في ذلك الوقت من رسم ونحت ومعمار، وتفننت الحضارات على مدار التاريخ في إبراز عظمتها بنفس الطريقة، التماثيل الرومانية، المعمار الإيطالي.. إلخ، حتى الديانة المسيحية استخدمت الفن لمساعدتها في التبشير والانتشار حول العالم، وفي العصور الحديثة نرى كيف اعتمدت الشيوعية على المدرسة الواقعية لرسم العمال في صورة سعيدة وغير حقيقية، بينما دعمت الولايات المتحدة الفنون التجريبية والمفاهيمية التي تؤكد على قيم الحرية والفردية في مواجهة المد الشيوعي، ولا ننسى كيف كان هتلر يستخدم الأفلام السينمائية في الدعاية النازية لبث صورة قوية في حين حاربه شارلي شابلن بفيلم الديكتاتور.. وهكذا، إذن الأمر قديم قدم الحضارة الإنسانية نفسها، ولا تكاد تجد فناناً يخلو من توجه سياسي يقدمه في أعماله حتى عند أعظم المخرجين النخبويين مثل جان لوك جودار وكين لوتش.. وغيرهم ممن ينتمون للتيار اليساري. هذا يعني أن الصوت الذي ينادي بأن يكون الفن إنسانياً في المقام الأول وخالياً من أي توجهات سياسية أو دينية هو الصوت الهامشي على مدار التاريخ، ويحتاج إلى استقلالية مادية شبه مستحيلة لضمان صناعته وعرضه من دون أي توجهات خارجية، فحتى أكثر المهرجانات السينمائية العالمية تخصصاً لديها سياستها الخاصة التي تختلف من مهرجان لآخر، والتي أصبحت الآن ربما أكثر وضوحاً مع صعود تيار الصوابية السياسية الذي بات يسيطر على كافة مفاصل صناعة الفن من إنتاج ومنصات عرض تقليدية أو سيبرانية. من هذا كله نستخلص أن البعد السياسي للمسلسل لا يمثل مشكلة بحد ذاته طالما لا يؤثر على الجودة الفنية له.
أما المحور الثاني الخاص بالدقة التاريخية وحرفية ما جاء في كتب التاريخ، فلإيضاح ذلك سنسرد عدة أمثلة: الحقيقة التاريخية تقول إن طومان باي قد انهزم على يدي سليم الأول وصدر قرار بإعدامه، تلك هي إذاً الحقيقة المؤكدة التي لم يقم للمسلسل بتغييرها بأي شكل، ولكن تفاصيل ذلك المشهد عندما تعود إلى المراجع ستجد أنها مختلفة عن بعضها البعض، ففي أحد المراجع يذكر أن سليم الأول كان معجباً بطومان باي وعرض عليه ولاية مصر وأودعه في السجن عدة أيام ليفكر، لكن بسبب إلحاح خاير بك عليه وتحذيره منه أمر سليم بإعدامه، وفي مرجع ثانٍ يذكر أن طومان باي وافق أن يكون مستشاراً لسليم! وبعد عشرة أيام قرر سليم إعدامه بعدما عرف منه كل أسرار حكم مصر. إذن عندما يختار المسلسل أن يكتب رواية ثالثة ملائمة للخط الدرامي بأن يدور بينهما سجال ينتهي بأمر سليم بإعدام طومان؛ لا يُعد ذلك تحريفاً لأن المشهد الحقيقي تاهت ملامحه بتعدد الرواة. الحقيقة التاريخية أيضاً تقول إن قانون قتل الإخوة من أجل الانفراد بالحكم؛ قد وضعه محمد الفاتح وسار على قانونه ذلك بقية سلاطين الدولة العثمانية، ولذلك فعندما نشاهد سليم يقتل إخوته الواحد تلو الآخر لن نقف عند تفصيلات مثل: قتلهم في يوم واحد أم على عدة أيام، قتلهم بيده أم أعطى الأوامر فقط، لأن ذلك لا يغير من الحقيقة التاريخية، ولا يعد تشويهاً لها، ولكن تصاغ تلك التفاصيل بطريقة تقتضيها متطلبات الدراما.
الانتقاد الحقيقي الوحيد الذي يمكن أن يوجّه إلى صناع المسلسل هو فخ تقليد الأعمال الأجنبية أثناء محاولتهم جعل المسلسل في مصاف المسلسلات العالمية، الحقبة التاريخية التي يتناولها المسلسل ثرية جداً بالفعل على المستوى الدرامي والفكري، وكون المسلسل أربع عشرة حلقة فقط هو قرار فني وإنتاجي سليم وموفق، فمن جهة أثبت أن المسلسلات العظيمة ليست بعدد حلقاتها الكبيرة، ومن جهة أخرى فهو يكمل ثيمة الرقم 14 التي ذكرت كثيراً في أحداث المسلسل على يد جماعة باطنية تسمى الجهاردة، وهو خط خيالي لم يوجد في التاريخ وتم استخدامه لأسباب فنية، وإن كان يمكن الاستغناء عنه دون وجود فارق حقيقي. ولكن ليست تلك المشكلة، المشكلة أن زعيم تلك الجماعة هو رجل مقنّع على طريقة فيلم ريدلي سكوت (مملكة السماء)، بدون وجود أي سبب حقيقي لذلك القناع إلا إضفاء الغموض لا أكثر، بينما الملك المقنع في الفيلم كان كذلك لأنه مصاب بالجذام ولا يريد أن يظهر بوجهه الحقيقي. أيضاً مشهد اقتياد طومان باي إلى حبل المشنقة يتشابه إلى درجة أكبر من اللازم مع مشهد اقتياد المسيح للصلب في فيلم ميل جيبسون (آلام المسيح). وعندما يتم إعدامه ويسقط المصحف الذي كان يمسكه على الأرض ويسرع أحد الأطفال لالتقاطه؛ هو أيضاً مستنسخ من فيلم مصطفى العقاد (أسد الصحراء)، وقد كان استنساخاً بلا معنى، ففي حين يقوم الطفل في الفيلم بارتداء نظارة عمر المختار تعبيراً عن استمرار المقاومة، فالطفل في المسلسل لا يضيف شيئاً لأنه لم تعد من مقاومة وقد اختطفت مصر بالفعل إلى أعوام طويلة من الظلام تحت الحكم العثماني.
وباستثناء تلك النقطة فالمسلسل أجاد تقديم الأحداث التاريخية التي تناولها، وبخاصة أنه قدم توازناً مدهشاً بين هشاشة دولة المماليك في أيامها الأخيرة وبين تقدير سليم الأول لقوتها التاريخية واتباع أساليب سياسية كانت كالمدفعية الثقيلة التي مهدت لقوته العسكرية الإطاحة بها. وقبل الوصول لتلك النقطة عرّج السيناريو على عشرات الأحداث التي أظهرت انقسام المماليك وخيانتهم لبعضهم البعض، والأهم جبروتهم وتسلطهم على الرعية، وهم في ذلك لا يختلفون كثيراً عن وحشية سليم الأول الذي قتلهم بلا سبب ولا رحمة، وهو ما ينفي الآراء الناقدة للمسلسل التي قالت إنه يجمّل صورة المماليك، وهو أبعد ما يكون عن الحقيقة. المسلسل إذن أثناء نقده للغزاة العثمانيين لم ينسَ أن ينقد الخلافة ككل التي يصنع منها الإخوان والأتراك صورة مثالية لم تحدث أبداً في التاريخ، وهو بذلك يكشف الورقة التي يلعب بها حسن البنا وأتباعه منذ عام 1928 ودعوتهم المستمرة لعودة الخلافة إلى تركيا متجاوزين بذلك مصلحة أوطانهم وسيادتها، وهذا هو السبب الحقيقي الذي تسبب في أن تثور غضبتهم بمجرد الإعلان عن عرض المسلسل، لأن كل من سيشاهده من عموم الناس سيدرك أنهم في الحقيقة مجرد نسخة جديدة من خاير بك، أو خاين بك كما لقبه المصريون، بعدما تحالف هو وآخرون مع المحتل الأجنبي ضد مصر.
السيناريو ينجح في تقديم شخصيتي طومان باي وسليم الأول ببراعة كبيرة تذكرنا بفيلم ميلوش فورمان (أماديوس) الذي قدم موزارت كطفل عبقري موهوب لا يترك الآلة الموسيقية من بين يديه على عكس ساليري المنهمك في الأكل واللعب، هنا نشاهد طوما الطفل يتدرب على المبارزة والخيل ويحاول أن يربح بشرف وأمانة أمام زميله المخادع مما يضطره اضطراراً لاتباع أسلوبه حتى يربح، نشاهد طوما يكبر ليصبح الجندي الماهر والمحب العاشق الذي يتعذب بين قلبه وبين إطاعة عمه لمصلحة البلاد، نتتبعه وهو دائماً وأبداً ينتصر لصالح الرعية ضد ظلم وقهر المماليك لهم، وحتى عندما يوافق على تسلم الحكم يأمر بإحضار دكة خشبية بدلاً من عرش فخم مزخرف بالذهب والناس جوعى. في المقابل وبأداء هادئ ومذهل بكل ما تعنيه الكلمة من معنى نشاهد (معتز هشام) -الذي يكاد يتفوق على (محمود نصر) الذي اختار أسلوباً أميل للانفعال- مجسداً سليم الذي يحب جده محمد الفاتح ويرى فيه القدوة والنموذج الذي يُحتذى به، ولذلك يفعل كل ما يستطيع من أجل الوصول إلى سدة الحكم، التمرد على أبيه وعزله من منصبه وقتله لإخوته ليس إلا نتيجة طبيعية للبوصلة التي اختار أن توجهه، الأمر ليس قتلاً من أجل الضرورة وإنما هو تلذذ حقيقي بالقتل، وهو صفة نفسية منطقية تماماً لشخص سفاح يقتل الآلاف بلا ضمير حتى لو لم يكتبها المؤرخون حرفياً.
ينجح المسلسل في تحقيق جميع أهدافه على كافة الأصعدة، فالنجاح الجماهيري المذهل لم يتوقف عند الإشادة والإعجاب، ولكنه دفع الناس للبحث عن الحقائق التاريخية بأنفسهم، وهو يعني أنه لم يكن عملاً تلقينياً ساذجاً كما يدعي البعض، بل حرّض المشاهدين على التساؤل والبحث والتفكير، ولو كان ذلك غاية ما حققه المسلسل لكفاه، نجح أيضاً في تقديم جودة فنية لا تقل عن مستوى المسلسلات العالمية في جميع الأركان الفنية والتقنية من ديكور وإكسسوارات وتصميم أزياء ومكياج وتصوير ومونتاج وصوت. المخرج البريطاني بيتر ويبر تجاوز الكثير من العقبات الثقافية والفكرية واستطاع أن ينفذ إلى قلب السيناريو لينفذه بأفضل شكل ممكن، وإن كان يعاب عليه أنه لم ينجح في تقديم القاهرة بصورة مبهرة جعلت سليم الأول يأخذ كل حرفييها وفنانيها معه إلى إسطنبول ليجعلها في نفس روعة القاهرة، بل على العكس كانت إسطنبول في المسلسل شديدة الفخامة بحدائقها ونوافيرها وفخامة قصورها، في مقابل القاهرة التي ظهرت كثيراً مغطاه باللون الأصفر ومزدحمة والتراب يغطيها، ولكن ذلك لا يقلل من المنجز البصري الهائل في المسلسل بالتعاون مع أليخاندرو توليدو في مشاهد الحروب والمعارك، ينجح أيضاً المسلسل في تحقيق هدفه السياسي الذي كان يصبو إليه منذ البداية، ليس فقط على المستوى الشعبي بل والرسمي كذلك.

ذو صلة