منذ فجر التاريخ، وسعياً منه لتلافي المخاطر، وحباً في البقاء، امتلك الإنسان البدائي لغة الإشارة والتخاطب، وكانت لغته هذه عبارة عن إيماءة وحركة وإشارة، للتعبير بها عن كل رغباته ومتطلباته، ثم مرت مئات السنين، حتى وصل الإنسان إلى اكتشاف اللغات المتعددة، التي مارس بها الكلام، والتي اختلفت من شعب لآخر، ومن أمة لأخرى.
لكن هناك لغة موحدة، لم تختلف عليها الشعوب أو الأمم، أياً كانت ثقافتهم أو حتى قومياتهم، وتلك اللغة لا تحتاج لأدنى ترجمة تذكر، ولا يمكن تحريفها أبداً، ألا وهي لغة (الأجساد) باعتبارها إشارات مُعبرة وحركات دالة، قد ظهرت مع ظهور الإنسان البدائي، ولغة الأجساد تُعد أكثر إيضاحاً وصدقاً من أي كلام، ولا يمكن أن يتخللها أية أكاذيب أو حتى افتراءات، وتأكيداً عليه عبر الناقد الفني فرانكلين ستيفنز قائلاً: (إن الإنسان يستخدم الحركة للتعبير عن ذاته عن جوعه عن آلامه، عن غضبه عن أحزانه، عن اضطراباته عن مخاوفه، حتى وإن كان ذلك دون استخدام كلمة واحدة)، والإنسان منذ أن خلقه الله تعالى، لم ينشغل بأي شيء أكثر من انشغاله بجسده، وذلك أمر طبيعي، لاعتبار الجسد هو كيانه المادي، الذي يوجد من خلاله على وجه الأرض.
فلا يمكن أبداً تصور حياة البشر كلها دون ذلك الجسد، وعلى الرغم من أن الجسد عبارة عن كيان مصيره الفناء، لكنه في ذات الوقع بوتقة للروح والإدراك العقلي والوعي الإنساني، والطاقة الحيوية والتجدد الدائم، والإحساس المرهف، والتقدم العلمي والثقافي والتواصل والازدهار الحضاري، وذلك كله حالة استغلال الجسد أحسن استغلال، ومن ناحية أخرى يمكن أن يكون الجسد، أداة أو طاقة مدمرة لصاحبه، أو لمن حوله في حالة إساءة توظيفه أو استغلاله، ما جعله محوراً مهماً من محاور كل العلوم، سواءً كانت دينية أو أخلاقية، طبيعية أو إنسانية، فلسفية أو فنية أو حتى أدبية.. إلخ، وكلها كانت محاور تترصده على الدوام، ليس للنيل منه أبداً أو الحد من قدراته، ولكن للوقوف بالمرصاد أمام أية محاولات هادفة إلى الانحراف بذلك الجسد، بعيداً عن الأهداف الطيبة التي من أجلها خلقها الله.
تحول وتغير وتطور دائم
من المعلوم أن فن التمثيل نشأ أساساً بدافع من غريزة المحاكاة، وعلى غرار انتشار فن التمثيل بالعالم، شاعت كذلك لغة الأجساد، كمفهوم شمولي يمكن لكافة البشر فهمها وبالأخص في العرض المسرحي، حيث ظهر أن وسيلة التعبير المرئية الذاتية للفنان، دوماً ما ترتكز على جسده بجانب مكملات أداء جسده من العناصر البصرية الأخرى، إلا أن جسد الممثل، قد شكَّل نُقطة انطلاق ديناميكية، لتفعيل باقي عناصر العرض، وغالباً ما يتمكن المشاهد، من إدراك معاني حركات الجسد دون كلمات، كونها حركات خاطبت الحواس مباشرة دون قيود، ما يجعل المشاهد، يُسهم بكل مشاعره بما يراه، واستطاع الفنان من خلال حركات جسده، أن يُحقق خطابه البصري، وفي ذات الوقت ميزت حركة الجسد كل ممثل عن غيره، على الرغم من وجود تشابهات كبيرة بينهم، سواءً في الأفعال أو السلوكيات، وثبُت أن مفهوم جسد الممثل على خشبة المسرح، لم يكن ثابتاً في جميع العروض أو الأنواع.
لكنه بحالة من التحول والتغير والتطور الدائم، وفق ما يلحق به من تطورات وأحداث، التي يتم من خلالها العمل المسرحي، وظهر أن المجتمع له أثر كبير في التعامل مع جسد الممثل، لأن جسد الفنان على وجه العموم، تتراكد فيه تقنيات ذاتية، كما أنه يصعب التعرف على جسد الممثل، بمعزل عن مفهوم ذلك الجسد وعلى فلسفته، ضمن الحضارة التي ينتمي إليها ذلك الممثل، فنجد أن الجسد، لعب في الثقافة الأوروبية منذ اليونان القديمة، دوراً أساسياً في مولد المسرح واستمراره عبر العصور التي أعقبتها، لأن جسد الممثل عند تحركه على خشبة المسرح، لا يتخذ من شكله الخارجي أو تحولاته، هدفاً أساسياً للتعبير، وإنما يقوم بعملية (مزج) كامل لما بين شكل جسده الخارجي، أو ما يعرف بفيزياء الجسد من خلال حركاته، وما بين مشاعره الداخلية، ودون ذلك المزج، سوف يصبح الأداء الخارجي لجسده، خالياً من الانفعال النفسي، وبعيداً كل البعد عن أعماق الشخصية التي يؤديها.
الجسد أشبه بآلة عزف
في كتابه الموسوم بـ(التمثيل)، تحدث أستاذ المسرح ريتشارد بولسلافسكي بقوله: (إن صعوبة فن الممثل المسرحي، تكمن في استحالة الفصل بين أدواته، التي تتمثل في جسده وعقله وروحه، فلا يمكن تحليل وظيفة كل منها بمعزل عن الأخرى، حيث يتحتم على الممثل، أن يجعل التركيز والملاحظة والتجربة والذاكرة، والحركة والتوازن والخلق والإيحاء، في خدمة حركته اللحظية وأدائه التلقائي، وكل تلك القدرات الجسدية والإمكانات العقلية والمواهب الروحية، لا بد من أن تولد مع الممثل هذه القدرات على التمثيل، بينما الحرفية التي تتيح لموهبته التعبير من خلالها، فمن الممكن بل ومن الضروري تعلمها)، والملاحظ أن بولسلافسكي لا يقصد بلفظ الحرفية هنا إمكانات الممثل الجسدية، على الرغم من تأكيده واعترافه بأهميتها، فهو يشبه تدريب الجسد بضبط أوتار الآلة الموسيقية كمهمة تتجاوز مجرد الحرفية إلى الحس والإحساس والموهبة، معتبراً أن الجسد هو آلة يعزف بها الممثل كل الألحان المتنوعة والمتعددة، للتعبير عن درجات وألوان من العواطف والأحاسيس، تتراوح بين التعقيد والبساطة والهدوء والصخب، بين البطء والسرعة، والسكون والحركة.. إلخ.
فالممثل الذي يمتلك ذاكرة غنية بالأحاسيس والمشاعر، يمكنه أن يعزف من خلال جسده، كل الألحان الممكنة، وأن يجسد كل الأشياء التي ليس لها وجود في الحقيقة، وحالة وقوفه على خشبة المسرح، يمكنه استبدال الشيء الحقيقي بشيء آخر من صُنعه، والممثل الواعي تماماً للغة الجسد يعرف كيف يتلاعب بها في الوقت الذي يريده، وبالأخص عند اقترابه من اللحظة الفعلية للشعور المزدوج الحقيقي، الذي يتحد عنده كيانه الواعي وخبرته الحرفية بتلك الشخصية التي يؤديها، لإخراج طاقات جسده من مكامنها ووضعها تحت إمرته، ليعزف أجمل الألحان، والممثل عند فعله كل هذا يكون دون وعي منه، عندما يحسن أداءه ويمتلك السيطرة البدنية التامة، وعن استظهاره الفعل الدرامي والحركة الجسدية، فإنه يصل إلى درجة من الاحتراف الواعي والتلقائي، عند ذلك لا تتمكن أية مقاطعة أو تغيير للنظام التشويش على صفاء ذهنه، وهو ما عبر عنه المسرحي الإيطالي إيوجينو باربا بقوله: (إن الجسد في حالة حياة، يُمدد حضور الممثل وإدراك المشاهد، وهو لا يعني وجود شخص حاضر أمامنا، ولكنه تغيير مستمر وتفتح يتم تحت أبصارنا، إنه جسد في حالة حياة، لقد تم تحوير الطاقة المتدفقة أثناء سلوكنا الاعتيادي، لتصبح مرئية بصورة غير متوقعة).
دوام التنوع بتدريب الذاكرة
من الأمور المهمة الواجب على الممثل المسرحي القيام بها، ملاحظة حركة الناس بدقة، فيما يخص كل المواقع والمواقف والانفعالات، لأن مجرد دراسة مختلف الأيدي والأصابع وحركاتها، وكيفية ملامستها لأي جزء من أجزاء الجسد من أهم الأمور، علماً بأن تلك الدراسة، يمكنها إضافة الكثير لما يمتلكه الممثل من مفردات، قد يمكنه استدعاؤها وقت اللزوم، وهي مفردات كثيرة جداً ومتنوعة، ويمكنها التغير والتنوع من وضع لآخر، ومن موقف لآخر، كونها تكتسب دلالات جديدة ومختلفة تماماً، وعلى سبيل المثال ما ينطبق على حركات الأيدي والأصابع، ينطبق على كافة أعضاء الجسد في تنوع التعبير الحركي، لذا فالممثل المتابع لحركات الآخرين بدقة، وذاكرة أكثر وعياً، تتضاعف حصيلته من المفردات الحركية بشكل مستمر، ومن الصعب جداً وقوعه في خطأ التكرار الممل، حالة ما يجد نفسه أسير مفردات محدودة، لا مناص من إعادة استخدامها، أمام مشاهد يمكن أن يكون قد حفظها تماماً.
ومن ثم يهم المشاهد بصرف النظر عنها في النهاية، ولا جدال في أن تلك المفردات الحركية المتنوعة والمكتسبة، من خلال مراقبة الآخرين بشكل شبه يومي، تتطلب من الممثل مرونة كبيرة جداً، وسيطرة تامة على كل عضلات جسده، ليمكنه إيصال دلالتها إلى أكبر شريحة من الجمهور، بجانب أن تدريب الذاكرة على استيعاب أية مفردات حركية، إنما يُعد من أقوى أسلحة الممثل المسرحي، وذلك التدريب لا يمد مخزون ذاكرته بالحركات الجسدية المادية فقط، بل يمدها بكل الدلالات والإيماءات التي تبرزها الروح البشرية إلى السطح، ما يجعله قادراً على الإقناع عبر مصداقية حساسة ومرهفة، كونها ذاكرة حسية وعضلية ونفسية وروحية، سهلت تلاؤمه مع أي عمل، أو أي موقف أو دور يطلب منه تأديته، كما أنها تفتح عينيه لتقدير مختلف الفروق بين الشخصيات والقيم والمواقف، وتجعله قادراً على التجدد الدائم، وملاحظة الحركات باستمرار، هي المادة الخام للممثل المسرحي التي يشتغل بها، حتى يعرف كيف يطوعها في أنسب المواقيت.
تحرك الجسد داخل منظومة
لا يخفى على كثير من المتابعين للأمر، ما آلت إليه العروض المسرحية في الفترة الأخيرة من فتور واضح، بعد إصابتها بداء التخصص، سواءً في التأليف والإخراج، أو الإلقاء أو التصميم، أو غيرها من الأمور الأخرى، كما عانى أيضاً مخرجون كبار، كان لهم باع طويل في نفس المجال، من تدني عملية التعبير الجسدي للممثل، بعد أن بات التمثيل عبارة عن إلقاء جيد متميز، لكنه أصبح بعيداً تماماً عن الأداء المسرحي المركب والمتكامل، ما دفع أولئك المخرجين، إلى العودة بإصرار لجوهر العمل المسرحي، وتحقيق هويته الأصلية، من خلال لغة الجسد، التي لا تنفك أبداً عن لغة اللسان، ولأن العرض المسرحي، يُعد سيمفونية متكاملة ترفض دوماً ذلك التخصص الحرفي المتسم بالضيق، فقد وجب على أي فنان أن يكون ملماً في تخصصه، بتقنيات أقرانه من الفنانين الآخرين، كي لا تلقى مهام الربط والتعاون فيما بينهم على عاتق المخرج فقط، والملاحظ أن ذلك التخصص الضيق، انعكس على طرائق وأساليب تدريس الفنون التمثيلية، حيث لم يجد الطالب، سوى معلمين متخصصين أيضاً في تلك الفروع، مع عدم وجود أحد يعلمه كيفية التعبير بجسده، المفترض فيه أن يحوي كل التخصصات، لكي تتبلور فيما بعد بعرض مسرحي يكون متناغماً ومتكاملاً عبر شخصية الممثل المتميزة، ما دفع معظم معاهد تدريس الفن المسرحي على مستوى العالم، إلي إعادة صياغة مقرراتها، لتدريس فنون التمثيل الصامت أو الإيماء والحركة الجسدية، وغيرها من مفردات لغة الجسد ذات البلاغة الخاصة بها.
فالجسد لا يتحرك من أجل الحركة فحسب، ولا يسعى لجعل حركته تبدو أكثر جمالاً فقط، لكنه يتحرك طبقاً لأوامر واعية وتلقائية، تصدر إليه من صاحبه، وذلك وفق إطار سياقي درامي وحركي وجمالي للعرض المسرحي، كما أن جسد الممثل يتحرك في إطار شخصية معينة وفي إطار (زماني ومكاني) محددين، لذا ينبغي على الممثل المسرحي أن يشكل جسده، وبما يتناسب مع كل تلك الأطر الدقيقة، التي قد يشاركه فيها لفيف من الممثلين الآخرين، لأنه لا يتحرك أبداً من فراغ، وعلى الرغم من تركيزه على محوره الذاتي، فلا بد أن يضع الممثل محاور الآخرين، كي لا يُحدث أي نشاز أو نفور في الإيقاع، أو عدم تجاوب فيما بينهم، ومن الصعب عليه التمكن من مفردات لغة جسده، سوى بمعرفة وظيفة كل جزء على حدة، والإحساس بالموقع الذي يشغله ذلك الجزء، ومداه الذي يمكنه بلوغه في حركته التعبيرية، وعليه إدراك كيفية تعاون هذه الأجزاء مع بعضها، في داخل منظومة واحدة، للوصول إلى مرحلة التناغم الداخلي لعزف أية نغمة من مقام الشخصية أو الموقف، أو اللحظة الدرامية الراهنة، ولم تكن لغة الجسد حبيسة جسد الممثل، الذي يتميز بقدرته على التعبير، من أي بُعد من أبعاده، وبأي جزء من أجزائه، ومن كل اتجاه، وعلى الممثل أن يكون أكثر وعياً بكل ما سبق، ومتدرباً عليه، للوصول إلي درجة التلقائية المنبعثة من مركز الجسد للانطلاق إلى سطحه، لملء كل فضاءات المسرح الرحبة.