كانت أهمية الشعر في حياة أوكتافيو باث متجليّة منذ الصغر؛ فهو في يفاعته كَتَبَ عدداً من القصائد، ولم يتوقف، وكان طموحه أن يكون شاعراً ولا شيء غير الشاعر، وحتى في كتاباته النثرية كان يسعى دائماً للدفاع عن الشعر وخدمته، وشرحه لنفسه وللآخرين.
كتاب الشعر
ويعد كتاب (الشعر ونهاية القرن.. الصوت الآخر) من أهم كُتب أوكتافيو باث، وهو من إصدارات مكتبة نوبل، وترجمه للعربية ممدوح عدوان في طبعته الأولى عام 1998م، وطبعته الثانية 2015م. وهو مجموعة مقالات كتبها أوكتافيو باث في سنوات متباينة وفي أماكن متعددة، وموضوعها الرئيس هو الشعر في عصره، فالشعر -في رأيه- حرفة في غاية الغموض، إنه مهمة ولغز وتسلية (تمضية وقت) وسرّ مقدس، وصنعة وعشق.
الطول والقصر
ويحاول أوكتافيو باث أن يرسم عدداً من المعايير النقدية للشعر، معترضاً -أحياناً- على مقاييس كانت ذات حضورٍ قوي في الشعر، مثل مقياس الطول والقصر، أي طول القصيدة وقصرها، ضارباً لذلك أمثلةً من قصائد مشهورةٍ طويلة، فهو يرى أنّ الطول والقصر تعبيران نسبيان ومتغيران، وعدد الأبيات ليس معياراً؛ فالقصائد تتنوع في هذا المقياس، وتمثل القصيدة القصيرة دهشة شعرية أو ومضة فنية تحدث في ذات المتلقي تعجُّباً، بينما تكون القصيدة المتوسطة الطول ذات بداية ونهاية محددة ينسجم معها القارئ ولا يستطيع أن يفصل بين أجزائها، بينما القصيدة الطويلة الشاملة لموضوعات متعددة فلكل قسم كينونته الخاصة وفكرته، وداخل كل قسم يتشكل الإدهاش والتكرار والتنوع؛ لأن القصيدة الطويلة تنمو وتتطور بحسب بناء الدلالات فيها.
القصيدة أغنية
وتعد القصيدة في نظر أوكتافيو باث في أبسط أشكالها وأكثرها تجذّراً (أغنية)، وهذا بعد رومانسي؛ لأن الرومانسية غيّرت ملامح القصيدة ومعماريتها وموضوعاتها، فالقصيدة عنده ليست تفسيراً ولا حديثاً مطولاً؛ ولذا فهو يرى أن القصيدة الدينية تتحول بدورها إلى قصيدة فلسفية؛ لأن القصيدة الدينية تقدم تصوراً مثالياً كما تقدمه الفلسفة، وعليه يجب ألا يكون موضوع القصيدة الشاعر نفسه، بل المشاعر والأحاسيس من حب وغضب وغيرها، وهي تتحول إلى أشخاص بفعل اللغة داخل القصيدة فتتفاعل فيما بينها كما يتفاعل البشر في حياتهم، وعلى الرغم من ذلك فإن القصيدة تُخفي عنا شيئاً عن طريق التجسيد والتشخيص اللذين يمثلان جسراً بين الفكرة والواقع أو بين عالم الأفكار وعالم الأشياء، وعلى هذا فالشعر وريث حركات الحداثة والرومانسية بما قدمته من تحولات في كتابة الشعر ونقده.
من الأسطورة للثورة
ويرتبط الشعر بالأسطورة ارتباطاً وثيقاً لديه، حيث يرى أوكتافيو باث أنّ العصر الحديث حطّم هذه العلاقة بينهما، وهو يتجه لربط الشعر بالثورة، الثورة على كلّ شيء، بدءاً من لغة القصيدة وأسلوبها ومروراً بتراكيبها وانتهاءً بصورها ودلالاته؛ فتحولت بذلك الثورة إلى أسطورة مركزية في فكر الحداثة، وتاريخ الشعر الحديث من الرومانسية إلى وقت الحاضر لم يكن إلا تاريخ علاقة بهذه الأسطورة الجديدة، لقد شكلت الثورة تحولاً في كل الأنساق الاجتماعية، فهي في العلاقات الملتهبة والمتطرفة والممتدة من الإغواء حتى الاشمئزاز، ومن الولاء حتى استنزال اللعنات، ومن الحب الأعمى حتى الهجران والتخلي. ومن هنا كان مفتاح القصيدة في العصر الحديث برأيه هو الثورة، ولذا ظهر عدد من السمات التي اكتسبها الشعراء، مثل الذاتية والأنانية والفردية وأصبح الشعراء ذوي حساسية خاصة فاضت فيها روح جنائزية تدل على تمزق الحالة الروحية لدى الشعراء. ومع هذا فإن أسطورة الحداثة/ الثورة أَفَلَتْ بل ماتت ميتة طبيعية، وتحولت بعد ذلك إلى تاريخ في خريطة الشعر.
كم قارئاً للقصيدة؟
يوجه أوكتافيو باث هذا السؤال باحثاً في أعماقه عن دلالة بعض العبارات التي أطلقها بعض الأدباء، فعبارة (إلى الأقلية الهائلة) التي وضعها خوان رامون جيمينيز إهداءً للقارئ في أحد كتبه، وعبارة (القلة السعيدة) التي وصف بها القراءَ ستاندالُ تمثلان إجابة عن هذا السؤال، وهي إجابة غامضة ومتناقضة، فكلمة (أقلية/ قلة) ممكنة الإحصاء، في المقابل كلمة (الهائلة/ السعيدة) غير قابلتين للإحصاء، بل حتى غير قابلتين للقياس بالمفهوم الدقيق. إنّ هذه الأقلية لها حظوة خاصة فهي التي تنال هذا (الهائل/ السعيد) من الدلالات والمعاني وتتجاوز الشخصي إلى ما هو اجتماعي وإنساني. إنه الشعر النبعُ الذي لا ينضب، والقصيدة شيء مصنوع من كلمات بغرض احتواء مادة ما وإخفائها في الوقت ذاته، وما من جنس أدبي تتجلّى فيه الوحدة المتكاملة بين الصوت والمعنى بانسجام أكثر من الشعر، فالقصيدة عضوية لفظية إيقاعية، ولذا كان هذا الهائل السعيد للأقلية، وهي من السمات البارزة للشعر في العصر الحديث أن يظل فن الأقلية.
مَن يقرأ القصيدة؟
وإذا كانت الفقرة السابقة تبحث عن العدد، فإنّ هذه الفقرة لدى أوكتافيو باث تركز على النوع، فالسؤال بـ(مَن)؟ يختلف جذرياً عن السؤال بـ(كم)، بل إنّ السؤال بـ(كم) لا قيمة له إلا بالنظر إلى السؤال بـ(مَن)، فأيّ نوعٍ من الناس يقرأ القصائد؟ و(مَن) هنا تتضمن أسئلة أخرى منها (كم) و(أين) و(متى)، وهذه الأسئلة مرتبطةٌ بالثقافة والطبقات الاجتماعية والتحولات التاريخية، ومن هنا تتحول المسألة إلى مسألة ذات بعد تاريخي، فأصبحت القصيدة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بحضارة أي أمة، فالشعر يُتلى في مواقف كثيرة ويُغنّى به في مناسبات مختلفة بدءاً من اليونان والرومان إلى وقتنا هذا، بل إنّ الكتابات ما زالت تزيّنُ بالشعر باعتباره نوعاً متميّزاً من الكتابة، وهذا التاريخ الطويل للشعر وللقصيدة ظل مقروءاً ولكننا لا نهتم كثيراً بعدد القراء بقدر ما نهتم بـ(من) قرأ هذا الشعر، إذ إنّهم في النهاية هم نواة الفكر في المجتمع.
وعلينا أن نلاحظ أنّه في الماضي كان قراء القصائد ينتمون إلى الطبقات الحاكمة/ العليا، وقد حدث التغيّر الكبير في العصر الحديث حين ظهرت الرومانسية فصار قراء القصائد مثل الشعراء أنفسهم، إنها طبقة اجتماعية برجوازية تعيش تحت وطأة الفقر والحزن والألم تتسلح بسلاح الثورة والفكر الانتقادي.
توازن ونبوءة
ومن هنا فإنّ الشعر لا يلفظ أنفاسه الأخيرة، ولكنه متعبٌ، إنّه يُعاني نوعاً من الجدب، فبعد الحركة الرومانسية لم تظهر حركة شعرية ذات مجالٍ واسع من التأثير زمنياً ومكانيّاً، وعلى الرغم من ذلك فلا يمنع من ظهور شعراء جدد، فكل جيل يطرح أعلامه على الرغم من الانكسار المفاجئ للشعر والشعراء، والسؤال الخاطئ هو: هل ما يزال هناك شعراء عظماء مثلما كان هناك من قبلُ؟ لأنّ كل جيل يشكو الشكوى ذاتها ويطرح السؤال نفسه، فالظاهرة متكررة وشاملة وهي ملازمة للعصور كلها واللغات كلها، ولكن الشعر يمرّ بفترة توعكٍ عقلي وروحي عميق يتزامن مع صدمة تاريخية هائلة، غير أنّ كلّ أزمنة القلق التي صحبت الشعر هي أزمنة غنية بإبداعات شعراء مبدعين، فليس ثمة قلق على صحة الشعر، ولكن على مكانته التي يحتلها في المجتمع، فالشعر ما زال يحافظ على حياته على الرغم من أنه يختبئ في السراديب. إن حالة الشعر صعبة وقاسية ولكنها لا تدعو لليأس.
هكذا فالشعر في نظر أوكتافيو باث يحتلّ مكانة مركزية وغريبة، فهي مركزية لأنها جزء من تيّار النقد والهدم، ولكن فرادة الشعر الحديث تكمن في تعبيره عن الوقائع والأحلام المتجذرة عميقاً في الماضي، فالشعر يقع بين الدين والثورة؛ لأنه صوت العواطف والرؤى، فالشعر شيء، ولكنه الشيء الذي يصل إلى اللاشيء تقريباً، إنه مكون من كلمات، إنه لوحة لفظية تثير لدى السامع أو القارئ رذاذاً من الصور الذهنية، والشعر يُسمع ولكنه لا يُرى إلا بالعقل، وصوره مخلوقات برمائية، فهي أشكال وأفكار وأصوات وصمت. إن الشعر ذاكرة وقد تحولت إلى صورة، وصورة تحولت إلى صوت الإنسان النائم بعمق في قلب البشرية؛ لأنّ العلاقة بين الإنسان والشعر قديمة قِدم التاريخ.