مجلة شهرية - العدد (579)  | ديسمبر 2024 م- جمادى الثانية 1446 هـ

التنقـيب عن الأثر.. تحولات القيمة الثقافية في المدن الكبرى

تتسابق الفنون للاستعانة بالوسائط، ومختلف الطرق، لتنويع أساليبها وإظهار محتواها بطابعٍ حداثي مختلف ليحظى بالقبول في المجتمع.
وحظي الفيلم السينمائي بالصدارة في زمننا المعاصر ليستأثر باهتمام عامة الناس على اختلاف ميولهم وطبائعهم، مستعيناً في سبيل تحقيق صدارته بالفنون والآداب الأخرى لتكون رافداً مسانداً له في إظهار مميزاته المتعدّدة.
تبرز الدراما بقوة في أحداث الفيلم مما يعطيه ميزة الاستئثار بانتباه المشاهدين طوال فترة عرضه بحسب التجديد والإثارة والترقّب الذي يلوح منه.
المدن الكبرى.. عقبات الهوية
ثقافة الفيلم هي صورة موجزة من ثقافة الحياة نفسها، لذلك فمشاعرنا تنساق خلف اللقطات المتوالية التي تشكّل حكاية ننتظر خاتمتها التي قد تكون مرضية أو مُحبِطة للمتابعين، ولربما تكون ممهّدة لجزء آخر من ذات الفيلم، فتستحوذ على اهتمام عقول المتابعين الذين ينتظرون موعد صدور وعرض الجزء التالي الذي قد لا يكون جزءاً أخيراً، بل جزءاً ضمن سلسلة ستتوالى تباعاً في سنوات مقبلة.
القدرة التعبيرية النابعة من السينما تمنحها الميزة الحاسمة باستقطاب المزيد من المهتمّين بهذا الفن الضخم المتنامي كمّاً وإنتاجاً، وذات التفاصيل التعبيرية تستعين بها العديد من الفنون كالرسم والنحت، حيث للتفاصيل الموجزة قيمة كبرى في الإطار الشامل للعمل الفني.
من أساسيات إنتاج الفيلم تتابع اللقطات وتدفّقها في أحداث تضج وتهدأ بتنويعات مختلفة تعتمد على براعة السيناريست والمخرج وأداء الممثلين. اللقطة هي المحور، فيحرص المخرج على إنتاج الصدمة في اللقطة، وبقدر ما تكون اللقطة صادمة فإنها تحوز على التفاعل المطلوب. واللقطة تقتص من المكان، فكيف من الممكن إظهار قيمة المكان في الفيلم وهو بمجمله يعتمد على اللقطات المتعاقبة؟
إن المدن الكبرى بطابعها الحديث هي مدن رأسمالية، حداثتها حداثة العولمة، وبالتالي هي تحاول بناء هوية جديدة لطابعها الحالي، ليس من السهل إنشاء هوية تحمل كينونة مكانٍ ما. وبخلاف التراث فإن المدن الجديدة تحتاج لإثبات وجودها، لذلك تضغط وبإلحاحٍ شديد على كل ما من شأنه أن يضيف قيمةً لمكانتها التي تسعى لترسيخها، فكان الفيلم هو الرسول الأمين الذي تولّى هذه المهمة الثقيلة العبء.
ومدينة يمثّل اقتصادها ثقلاً ضخماً على مستوى العالم أجمع، مثل نيويورك؛ لم يكن لها أي قيمة ملموسة قبل مئتي عام فقط، نيويورك المدينة التي لا تنام بتجارتها المتنامية، وبمبانيها المتطاولة، وفعالياتها المتواصلة ليل نهار، وسكانها الذين يشكّلون فسيفساء التنوّع العرقي والمناطقي والديني، على مستوى العالم؛ ما الذي سيتيح لها أن تخلّد نفسها في قلوب البشرية؟ إنها الثقافة والإعلام وليس هناك أفضل من الفيلم كرسولٍ يبشّر بوجود وعظمة هذا المكان الحديث.
وهنا يقع المخرج في ورطة الفيلم، فطابع الفيلم يعتمد اللقطات، مع كل لقطة يصوّرها، ينتهي من مشهد فيجهّز للقطة جديدة ومشهد جديد، وهنا تأتي إشكالية إظهار المكان، فبأي وسيلة سيتمكّن من إبراز المكان كمكوّن رئيس من مكوّنات الفيلم وسط هذه اللقطات السريعة المنصرمة؟ إن الطبيعة المتحرّكة للفيلم تجعل المخرج يحتاج للحيلة الإبداعية ليضيف المكان للأحداث، بحيث يبدو المكان عامل جذب، حاله حال الحبكة والأحداث والممثلين أبطال العمل، يستهدف المخرج أن يكون المكان بطلاً من الأبطال، حيزاً يستوعب الأحداث بجمالٍ وفن.
اللقطة.. القطع.. التسلسل..
سر الفيلم
تتحرك لقطات الفيلم دون قطيعة مع ماسبقها، لقطات متماسكة، وإن بدت كل لقطة مقطوعة عما قبلها، فتنشأ بداية صغيرة، ومنها تنبثق اللقطات القادمة بلا قطيعة معها، كربطٍ بين التراث والحداثة، الحديث هنا يتجاوز القديم لكنه لا يتخلّص منه، لايتبرأ منه، فمن القديم ينبعث الجديد، فمهما سيطرت الأحداث الجديدة فهي لا تُلغي ماضيها الذي انطلقت منه، فحداثتها مستقاة من أصل راسخ وهو الماضي، الموروث الأصيل. بهذا الأسلوب الفني فإن الفيلم يتماسك، ولا يتعرّض للانفصال فيما بين محتواه، إنه يُحدِث الصدمة ليس بسبب فجاءيّة الأحداث بل بسبب البناء السردي المتصاعد، المنقسم في صور، والمتّصل في حدث، فنشعر أثناء متابعتنا وبلا سابق إنذار أننا أمام مفاجآت وصدمات، لكنها في حقيقتها متسلسلة ومتوائمة، إذن ستكون اللقطات المنفصلة بوابةً للشغف، لن تكون طريقاً للتشظي بل للتماسك.
الإنتاج سيمضي في طريقه المرسوم بعناية، لا عشوائية في التصوير.
اللقطات التي تنقطع بانتهائها هي بداية لأحداث جديدة مرتقبة، ها هو فن صناعة الفيلم.
إنه الانتظام المتجدد، تباطؤ إنما باستمرار، ليست هناك قطيعة بين أجزاء العمل، إنه استعارة مما يحدث في البيئات الاجتماعية، حيث تتطور المجتمعات بتدرج يتسارع ويقل بحسب ظروفه، إنما لا يحصل دفعةً واحدة. فالقطيعة الحاسمة مع الماضي بصورة واحدة مفاجئة تسبّب هزّة عنيفة تخلخل النسيج المجتمعي بقديمه وحديثه، فلا القديم يستوعب الجديد، ولا الجديد بقادر على مواجهة الواقع الذي أتى به، هنا تغيب المرجعية الثقافية، فيغدو الجديد في ورطة المعاصرة، بتدميره للماضي فهو نفسه يساهم في تدمير ذاته، لأن الجديد لا ينشأ من العدم، إنما ينشأ من ماضٍ يرتبط به، ومن الماضي بإمكانه التحديث بما يلبّي تطلّعات العصر الذي يعيشه.
النظر للمستقبل سر التقدم، ولتحقيق المرغوب فإن المستقبل يحتاج أن يستقي مصادره من الماضي ليتخطّاها قافزاً للمستقبل دون قطيعة تفسد مآربه وتضعه في طريقٍ مسدود في نهاية المطاف.
الفيلم هو الأداة الأوضح للتوسّط بين المدينة الحديثة والمشاهد، فالكل بإمكانه مشاهدة الفيلم، فئات المجتمع قد تكون في قاعة واحدة فيها الثري الفاحش الثراء، والفقير الشديد الفقر، إنه الجمهور الذي يتوافد لشراء تذكرة تمنحه مقعداً في قاعة العرض، هذه الجماهير ستدخل لمشاهدة الفيلم الذي ستجري أحداثه في مدينة حداثية ممتلئة بناطحات السحاب وشركات الأعمال ومنتجعات الترفيه ومراكز المعارض وفعاليات المؤتمرات والمنافسات الرياضية.. وغيرها من الأحداث التي تمتاز بها العواصم الكبرى والمدن الصناعية والتكنولوجية الكبيرة. يلجأ المخرج لتضمين المكان بدقة بحسب براعته، فالمشاهد الجانبية للطريق لشخص يقود سيارته، والحدائق ونظافة الشوارع واتساعها والطرق المرتبة والناس العابرون على جانبي الطريق؛ جميعها تُظهر الجوانب الجمالية في المكان الجديد، إنها ليست مناظر عابرة، بل هي دعاية خاطفة إنما متواصلة على مدار الفيلم، تُظهِر لنا النمط الحداثي للمعيشة، ففي كل صورة وكل مشهد هناك ذات فريدة سواء إنسان أو حيوان أو جماد أو نبات، الذات الفردية تتجلّى كأيقونة في الفيلم، ذوات كثيرة تتعدّد بظهورها في اللقطات، مشاهد متسارعة متغيّرة ترسّخ المدينة كموطن مثالي للإقامة، حرفة المونتاج أنه يُحسّن من قيمة المكان بإظهار جوانبه الكثيرة.
الصور المتتابعة.. مهمة تشكيل المكان
المخرج جنرال الفيلم، يُقطّع الصور والمشاهد، يختار الزوايا، يطوّر التفاعل بين الموجودات، فتأتي اللقطة إبداعية، وكأنها تحوي كل شيء، وأنها كل شيء؛ بينما هي في حقيقتها ليست سوى تفصيل جزئي لمساحة محدودة تم اختيارها بعناية لتصوير الحدث الملائم.
إن هذا المكان المغلق يبدو فاتحاً ذراعيه لاستقبال كل البشر، سطوة الكاميرا تنتصر، والعين يجذبها بريق الشاشة.
الألوان متعة البصر التي لا تفتأ تتجدّد بتكراراتها الخاطفة.
الإنتاج يزيل شوائب المدينة. القصور الملازم لطبيعة المدن الكبرى يغدو غير ملاحظ بفضل براعة الإنتاج، تصبح المدينة هي المكان المرغوب الذي يتنافس الناس لزيارته.
قوة الفيلم مستمد من قوة الإنتاج، فتبقى للمدينة مكانتها رغم اهتزازاتها التي لا تقوى على إيقافها، يتدخل الإنتاج لردم الهوّة، وحتى لو لم تكن المدينة الحديثة من ضمن العناصر الأساسية في الفيلم، فإن الإنتاج بإمكانه أن يجعلها كذلك بتكفّله بالعناية بطابعها الهش وإخفاء حقيقتها الموحشة وقابليتها للاضمحلال.
المونتاج يقدّم لنا شكلاً، قد لا يكون راسخاً ولا ثابتاً، ولكنه على درجات من التشويق تكفي لشحذ الأذهان وإثارة القلوب لتجربته والمرور به والتعرف عليه، فحتى وهو غير ملتزم بطابع ثقافي فريد ولا بتبنّيه لعقائد محدّدة؛ فإن احتواءه على بذور تنمو باِطّراد يجعله كافياً ومحط الأنظار للتجربة والاكتشاف.
إن اقتران المدينة المعاصرة بالفيلم لا يعني أن الأزمنة السابقة لم تكن بها حداثة، ففي كل زمن هناك تجدد حداثي للمدن والدول، ولهم وسائلهم وطرقهم التي يتّبعونها للترويج لعظمة مدنهم، ففي سنوات العصور الوسطى كان النحت والعمران أهم عاملين يميّزان المدن الكبرى عن الأرياف، فكانت العواصم تزدان بالتماثيل والمنحوتات الفخمة والجداريات البارعة التي اجتذبت عامة الناس للسكن في هذه المدينة أو تلك، فكان الفن هو المروّج الأوّل لقيمة العواصم الكبيرة. وفي القرنين السابع والثامن عشر كان للفن التشكيلي والرواية ظهور قوي، وبالأخص في لندن وباريس، ممّا ساهم في إعلاء مقامهما مقارنةً بأقرانهما من المدن المحاذية لهما.
ففي كل زمن يبحث الجمهور عمّا يجذبه، والأماكن الكبرى تكون أول من يهتم بهذا الجانب، فيحرص قادتها على الاعتناء بالمواهب الفنية القادرة على تقديم إنتاجات حصرية للمدينة بما يجعلها قبلة للسياحة والإقامة، فالذهول الذي يعتريك حين تدخل في المدينة الحديثة -المختلفة تماماً عن مدينتك الصغيرة أو قريتك القديمة- يجعلك مصدوماً ومنبهراً مما تشاهده فيها من المظاهر المدنية والحيوية البادية في مرافق المكان، حتى يصل بك الأمر مع الوقت إلى التعوّد على ما شاهدته، بحيث ما عادت مدينتك القديمة وحدها ما يجذبك، بل صارت المدينة الجديدة لها موقع أساسي في ذاتك، فتصبح جزءاً من اهتماماتك ورغباتك، الصدمة الأولى لم تُحدِث هذا الأثر، بل هي صدمات متتابعة أحدثت الأثر الجديد، فتغيّر منظورك وتكاثرت اهتماماتك، الفيلم استعار هذا المبدأ لإحداث الأثر المطلوب، الصدمات المتوالية المتقاطعة إلى أن تعتادها وتتقبّلها، فتنتمي لها.
حينما يحضر الشعر
الأداة تختلف باختلاف العصر، فالشعر العربي لطالما كان الأداة العظمى التي امتازت بها دول قوية ومدن ناشئة، فالدولة الحمدانية التي امتد نفوذها في حلب والموصل من الشام والعراق امتازت باستقطابها أهم الشعراء والأدباء. ولعل إنجازاتهم الكبرى في الحروب العسكرية والتسامح الديني والتنوع الثقافي؛ لم تشتهر بقدر شهرة وجود الشاعر العظيم أبي الطيب المتنبي الذي أنشد روائع قصائده في البلاط الحمداني بحضور زعيم الدولة الحمدانية القائد الكبير سيف الدولة الحمداني.
كان التقدّم الحضاري الذي نالته حلب ناتجاً عن وجود صفوة العقول الأدبية والعلمية فيها.
وكان الشعر فيها حداثياً، رؤيوياً، يتنافس الشعراء لابتكار المعاني وتجديد الأفكار وانتهاز المناسبات لكتابة القصائد البديعة وإنشادها، وكان لحضور النقّاد الكبار من علماء اللغة العربية دور جوهري في ترسيخ المكانة العلمية والأدبية لتلك الإمارة.
ومثلما التكنولوجيا والصناعة هما ما يجتذب الناس للعواصم المزدهرة اليوم فإن الشعر كان هو الجاذب الأهم في أماكن كثيرة في عصورٍ خلت.
فتبقى الحداثة وتتغيّر أساليبها.

ذو صلة