الخيال الكامن في مثيراته ودوافعه الإنسانية المتعددة والمختلفة ليس حكراً على مرحلة عمرية معينة لأنه في الحقيقة مملكة الكبار والصغار على حد سواء، باعتباره المرافق الأقرب للحلم الذي يصنع فيه الطفل بخياله عالمه المشتهى، كما الأدباء وخصوصاً الشعراء منهم يقومون عبر التخييل بتشكيل الصور في قصائدهم على نحو يتغير فيه قوام الواقع على هيئة جديدة، لذلك اعتبر بودلير الخيال عدسة ذهبية، واعتبر النقاد قصائد الشعر تُكْتَب بلغة الأطفال الحلمية التي تنهض وتقوم على الخيال الذي يأخذهم ببساطه السحري إلى عالم آخر مختلف عن الواقع المألوف، وهو ما سيدفع إلى السؤال عن كنه وماهية هذا الخيال الذي يمتلك كل هذه الفاعلية؟ وفي حقيقة ذلك ليس ثمة تعريف نهائي وجامع عند الدارسين من علماء النفس للخيال، ففي الوقت الذي يعتبره أرثرث ريبر عملية اتحاد الذكريات والخبرات السابقة والصور التي تم تكوينها مسبقاً وتوظيفها عند الإنسان داخل بنية جديدة، يراه كيت كيجان تمريناً للعقل وتنشيطاً لوظائفه المختلفة، والخيال وفق هذا المنحى يعد ميزة عقلية، في حين أن الطفل في مرحلته العمرية الأولى التي تبدأ في سنته الثالثة لا يكون قد بلغ مرحلة النضج العقلي ومع ذلك يمضي به الخيال إلى فضاء يخصه، كما يؤكد علم النفس الطفلي. وفي سياق ذلك لابد من التفريق بين الخيال اللاإرادي عند الأطفال وبين التخييل كعملية إرادية ومقصودة عند البالغين والكبار من المبدعين الذين يمضون إلى الخيال لإنشاء واقع مبتكر ومختلف عن الواقع المعاش، وبذلك يكون ميزة عقلية عندهم تمكنهم من استرجاع الذكريات والتلاعب بها وتغييرها وإعادة تشكيل تكوينها دون أي مساعدة خارجية، بينما يكون الأمر عليه عند الأطفال ضمن نشاط مختلف يتم بفعالية غير عقلية جراء مثيرات يسمعها من القصص والحكايات فيمضي من خلالها إلى فضاء جديد يتصور فيه موجودات هذا الفضاء على نحو محبب إليه، ووفق ذلك نخلص إلى القول أن الخيال الطفلي: هو فعالية نفسية تقوم على إنتاج ومحاكاة الأشياء على صورة جديدة دون تدخل الحواس. وإذا كان لكل مرحلة عمرية خيالها الذي يخصها، فلا بد من العودة إلى كل منها والتعرف على شكل النشاط الخيالي للأطفال حيث إن:
- المرحلة الأولى عندهم تبدأ من ثلاث إلى خمس سنوات، وخلالها يعيش الطفل في بيئة محدودة لا تتعدى بيت أهله وما هو بجواره فيبقى إدراكه محصوراً ضمن موجودات حدوده الضيقة ويكون خياله في محيطه حاداً.
- والمرحلة الثانية أهم ما يميزها هو النمو الجسدي الذي يصاحبه نمو عقلي يتعدى فيه الخمس سنوات ويبلغ التسع سنوات ويبدو الطفل عبرها أكثر إدراكاً للمجردات إضافة إلى شعوره المتزايد بالاستقلالية وحبه استطلاع الموجودات من حوله بشكلها الحقيقي وليس المتخيل فيرتبط أكثر بصورة عالمه المحسوس وينطلق بخياله منها ويعيد تموضعها على صورة تحقق رغباته.
- أما المرحلة الثالثة فهي تتراوح بين التسع إلى اثنتي عشرة سنة، وفيها يتضخم عند الطفل الشعور بالذات بـ(أنا مركزية) تدفعه إلى التمرد وحب التميز، إضافة إلى ميله إلى العمل الجماعي جراء ما يمليه عليه الخيال من ابتكار أشياء يحتاج إنجازها التعاون مع أقرانه وبذلك يغذي الخيال عنده العامل الاجتماعي والانفتاح على الآخرين.
- وفي المرحلة الرابعة يزداد فيها النضج، ويندفع فيها الطفل وهو بين السنة الثانية عشرة والخامسة عشرة إلى البحث عن الأفضل والأجمل ليكون في حياته القدوة والمثال، وهو ما ينمي عنده التميز الجنسي فيتظاهر هو بالرجولة بينما عند الفتيات يتم التظاهر بالأنوثة وعلى أساس ذلك يظهر الميل إلى النوع الذي يأخذ الطفل إلى مصاحبة الأطفال ويأخذ الفتاة إلى مصاحبة الفتيات، ويتميز الخيال في هذه الفترة بارتباطه بالأحلام المستقبلية المتعلقة بالتفوق الدراسي وبلوغ الحياة الخالية من المعاناة وأزمات الواقع المقلقة على اختلافها وصولاً إلى ما يسمى عند الكبار بأحلام اليقظة.
وخلال هذه المراحل العمرية مجتمعة يمضي الطفل بالخيال إلى استحضار الصور العالقة بذاكرته وفق ترتيبها الزماني والمكاني ويكون فيها التخيل حضورياً، كما يمضي إلى استحضار صور أخرى جديدة ليس لها وجود مسبق وفيها يكون التخيل اختراعياً، وبين هذا وذاك يمر الطفل بنوعين من الخيال، النوع الأول إيهامي ومن خلاله يقوم بتحقيق ما عجز عن بلوغه في الواقع. والنوع الثاني إبداعي ينجم عن النضوج العقلي، ويأتي ضمن فترته الدراسية فينصرف عبر الخيال إلى تحقيق غايات دراسية تصب في المعرفة والتفوق وهو ما يتبين منه مقدار أهمية الخيال في العملية التعليمية وفي السلوك أيضاً وهو ما يتطلب الاستفادة منه في ميدان التحصيل الدراسي والمعرفي والتربوي وهذه مسؤولية الجهات المعنية ومؤسساتها وفي مقدمتها الأسرة والمدرسة.
وإذا كان النمو البدني يحتاج أغذية منوعة وجيدة، فإن النضج العقلي المتعلق بالنمو المعرفي يحتاج أغذية منوعة وجيدة أيضاً، ويعد الخيال الطفلي بوابة مهمة لبلوغ هذه الأغذية، ويلعب الفضاء الأسري والبيئة المدرسية دوراً مهماً في رعاية الطفل واستثمار خياله بما يؤدي إلى تنشيط نضجه العقلي وتنمية التفكير الإبداعي عنده وذلك من خلال عدة عوامل أهمها:
قص الحكايات الطريفة والقصص التي تقوم أحداثها على المغامرات المفيدة والبطولات التي تنهض على حماية البلاد من اللصوص والأشرار والقصص التاريخية والدينية التي تُعْلي من شأن فضائل المثل والقيم السامية.
وكذلك تشجيع الطفل سواء في المنزل أو المدرسة على طرح فرضيات واحتمالات تقوم على السؤال المفتوح الذي يوَجَّه إليه بماذا يمكن أن يحدث أو ماذا يمكن أن يفعل فلان أفضل مما فعل، ويتم اختيار أشياء من أحداث حدثت في البيت والشارع، ومن ثم مجاراة اهتمامات الطفل البناءة وتشجيعه عليها والثناء على ما قام به وما أنجزه وإعطاء أبعاد وأفكار لها بما ينشط فعالية الخيال لديه.
وكذلك ضرورة إعطاء الطفل قدراً كبيراً من الحرية في ممارسة هوايته كصنع دمى منزلية أو كالرسم مثلاً حيث ينشط في محاكاتها وإبراز أشكالها.
ويأتي دور النزهات وزيارة الأماكن الطبيعية خلال الرحلات في إغناء الخيال عند الأطفال من خلال مشاهداتهم لموجوداتها التي توقظ في أذهانهم العديد من الأسئلة التي تساعد على إغناء قدراتهم العقلية.
وفي سياق ذلك لا بد من دعم الأهل والمدرسة بما يسمى الخيال الواقعي في شخصية الطفل وخصوصاً في سنيّه الأولى كي لا تختلط عنده الحقائق الواقعية بالخيال وخصوصاً بعدما أضيف إلى خياله الذهني الفضاء الإلكتروني وألعابه المتعددة التي يبلغ حد اندماجه بها وممارسته لها والتحدث عنها كحقيقة لا يفصل فيها بين الواقع والخيال وخصوصاً في مرحلته العمرية المبكرة.