ها هو صوت (حضيري بوعزيز) يملأ أرجاء فناء البيت المفتوح على السماء، منبعثاً من المذياع المعلق على الجدار:
سلم علي بطرف عينه وحاجبه/
رد التحية الزين يعرف واجبه!!
وها هي العصافير من ثقوب الجدران تعيد على الكون سيمفونية الصباح.
وها هي قد جلست على الحصير تقطع الطماطم وتثرم البصل. والدموع تسيل على خديها، والابتسامة تتألق بين شفتيها.
تهز رأسها تارة، وتبعد خصلة تعبث بخدها الوردي تارة أخرى. رفعت رأسها إلى السماء حين سمعت صوت طيارة مدنية تحلق في الفضاء. بدت الطيارة صغيرة جداً، وخلفها ذيل طويل من الدخان الأبيض. ظل متناثراً في الجو، كعطر فتاة مرت في الطريق ثم ابتلعها الزقاق فجأة.
في هذه الأثناء دخل عليها زوجها حمد، ذلك الشاب الأسمر مفتول العضلات، بسبب عمله في مهنة البناء. وكأنه المصارع (روكي جونسون) انحنى عليها فطبع على خدها قبلة حانية وهو يقول:
- صباح الخير يا بعد جبدي.
فتبتسم له وتقول:
- صباح الشوق ياعمري.
- وين أمية؟ ماشوفها اليوم قاعدة في الحوي!!
عبست بوجهها، ثم ابتسمت وهي تقول:
- راقدة في حجرتها.
دخل حجرته وهو يردد مع حضيري:
الزين يعرف واجبه.
ثم رفع صوته، وهو يخلع غترته البيضاء: يسلم قلبك ياحضيري.
في المساء صعدت الزوجة إلى السطح لابسة عباءتها تحرزاً من نظرة غريب، ورشحت وجه الأرض بالماء ليبرد بعد وهج النهار، وكانت قد حملت معها (ترمس) الماء المحزقة ذات اللون البرتقالي والغطاء الأبيض.
كان نسوة الحارة يلقبنها بـ(الحمامة) لجمالها ودلالها. ويتناقلن بينهن أخبار وعبارات العشق بينها وبين زوجها حمد. فقد كانت تثير غبار الحسد في قلوبهن بذكرها بعض مواقف عشق زوجها لها. فكثيراً ما تناقلت النسوة أن حمداً ذات مساء حمل الحمامة وصعد بها السطح وهي تلبط برجليها تظهر سعادتها ودلالها عليه. فكان كلما صعد بها درجة، طبعت على خده قبلة!! حتى وصل بها إلى السطح وقد قبلته أربع عشرة قبلة!! علماً أنها ظلت معه سنوات لم تنجب!! وهذا ما جعل أمه تكرهها وتريد تزويجه من امرأة أخرى. فكانتا على غير وفاق، ودائماً ما تشاجرتا في غيابه.
بعدما انتهت الزوجة من عملها اليومي استحمت ثم غيرت ملابسها وعقصت ظفائرها على وريقات الريحان (المشموم) وذرت (الشخوط) على مفرق رأسها، وصبغت شفاهها بقطعة من لحاء الشجر (الديرم) ثم جلست تنتظر حمد كعادتها كل ليلة.
ذلك المساء صعد حمد السطح فرأى زوجته تتشاجر مع أمه وضبطها ترمي بالمسند الأصفر الذي رُسمت عليه طيور باللون البني، على أمه!! فما كان منه إلا أن صفع زوجته على وجهها ثم نزل إلى خارج البيت. ظلت هي تبكي، وظلت الأم تسب وتشتم.
بعد ساعة عاد حمد ومعه أخو زوجته (ناصر) ثم رمى يمين الطلاق عليها وقال لها:
- ياالله، روحي مع أخوك.
فما كان منها إلا أن أكبت على قدمه السمراء تقبلها وتصيح:
-لاتطلقني يا حمد، أنا أحبك يا حمد. رفعت صوتها عالياً، فخفض الجيران أصوات الراديوهات ليسمعوا نحيب الحمامة.
لم يرق قلب حمد لها، بل ظل معرضاً عنها بوجهه وهي تشد قدمه تارة وذيل ثوبه تارة أخرى.
حتى انحنى عليها أخوها ورفعها من الأرض وألبسها عباءتها ونزل بها إلى خارج البيت وهي تنادي: حمد، الله يخليك لا تطلقني، أحبك ياحمد.
كانت الأم تداري ابتسامة تكاد تند من بين شفتيها. وظل المكان يفوح برائحة وريقات المشموم التي سقطت من شعر الحمامة!!