من هذا الـ(هو) الذي أحيا معه في ألفة غريبة، لم أعد أعرفه ولا أظن أنه لدي رغبة لأتعرف عليه، هناك قبر بداخلي، بياض أسير فيه دون هوادة، تتتابع فيه الأيام متشابهة، خطواتي لن تترك فيه أثراً وكأنني أمشي على الماء، أو لعلني أغيب شيئاً فشيئاً، فأختفي خلسة وسط الضباب بعدما أصبح بالنسبة لي (الضمير هو) أعيش حياتي منفصلة عنه، أعيشها قطعة قطعة، جزءاً بجزء منعزل في غياب الكل، فخيوط ذاكرتي بترت وتدهورت كل طقوسي القديمة، فهل صحيح أنه كانت هناك لحظات حب، لحظات مغفرة، ولحظات نسيان.
أستيقظ كل صباح في الضفة الأخرى، أرخبيل بلا نهاية، لم أعد أشتكي من الزمان ولا من المكان، فقد أصبحت كل الأمكنة والأزمنة عندي سواء.
أعيش رفاهية الغياب بكل احترافية فقد توقف الزمان لدي، وأصاب الركود أيامي، فأصبحت لوهلة كأنني أعيش في بعد آخر أرى وأسمع ولا أنفعل، حتى جسدي امتثل لغيابي وأصبح لا يعرف حدوداً له بعدما أصبحت أفقد التحكم في عضلاتي.
أجلس كالمعتاد أنظر للبحر وحده أعرفه، ذاكرتي تعج به، سفينة صغيرة تتهادى، طيور النورس وهي تحلق، أمواج تتعانق مع بعضها البعض ثم تذوب عند بلوغها الشاطئ، هنا أقبع طاعنة في الغياب، أنتظر أن يمضي الزمان بي أو لا يمضي، لقد أصبحت طفلة من جديد، هذا ما يقولونه عني طفلة لن تكبر أبداً.
في هذا الصباح استيقظ منعم نادى زوجته، يعرف أنها تستيقظ مبكرة دوماً، لتظل مشدوهة بجانب النافذة المطلة على البحر منذ أن أصابها الزهايمر، ولم تعد تتذكره، لقد ابتعدت عنه تدريجياً، لم يعد يعرفها، وحده جسدها ظل عالقاً يتعرف عليه، لكنه معطل كمن حكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ.
نظر إليها ممددة على كرسيها في الشرفة، تنظر في الفراغ، أدرك أنه لم يعد يخاف أن يأخذها الموت منه، بعدما عاشا معاً بكل انسجام وحب، لقد جعلت من حياته نعيماً لا ينضب، ولطالما كان يخشى أن يفرقهما الموت، كانت رحيمة معه حتى في مرضها جعلته يعتاد رحيلها ببطء، يعتاد غيابها وإن كانت حاضرة بنسيج ممزق لم ولن ينفع معه أن يرتق أجزاءه.
ظلت تنظر للأفق الممتد أمامه قبل أن تختفي خلف ستار الظلال.