الجو مكتظ بصراخات النساء وولولتهن. الرجال يتدافعون حول الرجل، أما الصغار فيستبقون بعضهم بعضاً لإيصال الخبر.
تحلقوا من حوله كما نمل تزاحم على قطعة خبز. الشمس تصلي جبينه المعفر بالتراب على إثر سقوطه، من الموجودين حوله، من ينضح الماء على رأسه. بدأ أحدهم يوسد رأسه على فخذه، وهو يصفعه منادياً: (يا دخيل يا دخيل، بسم الله الرحمن الرحيم قبيلي (1) كنت أتهرج معك، ولا كان فيك دقه (2)، يا دخيل ما بتغدي لعرس بن جار الله)!
يأتي أحدهم ويدفع الناس ليُفسح المجال للهواء أن يعبر:
- شيلوه لبيت أبو عايض هو قريب.
- أيوه جيبوه، خلونا نوقيه (3) عن الشمس، يمكن دايخ وتزيده.
يُحمل بين سواعدهم، وهم يلوكون أطراف ثيابهم بنواجذهم الصُفر خشية التعثر بها.
أحدهم يلحق بهم حاملاً عِمامة دخيل وعِقاله المقصّب، ومحزمه الذي كان يتوسط جذعه، ونزعه أحدهم ليُخفف عنه.
حين اقتربوا من البيت، كان عايض قد سبقهم بالخبر. استعدت والدته بأن احتجبت في حجرتها مع بناتها، ووفقاً للعادة تنحنح الرجال، وأبو عايض:
«طريق، طريق.. معنا دخيل جاته كفوه (4).
اقتصرت جهودهم على زيادة رشه بالماء، وشيء من (كالونيا)، والثوم الذي حشروه في أنفه، ومزيد من الصفع من صاحب تلك اليد الغليظة، كما لو أنه يثأر منه. يتواصل (كورال) النداء ريثما يصل طبيب القرية مع ممرضته.
حين وصل (وانيت) عبدالله قادماً معه بالطبيب، كانت زوجة جار الله تستقبلهم مُولولة، وتشارك في حفلة الصفع تلك، غير أنها تمارس ذلك على نحرها ورأسها، تندب مصابها، في الوقت الذي باءت فيه بالفشل كل محاولات أم عايض لتهدئتها.
جاء الطبيب، وأفسحوا له متسعاً لينحشر في دائرة النمل تلك، لكنه على عكسهم يصل لقطعة الخبز -دخيل المغشي عليه-، بدأ أولاً في تفقد نبضاته ممسكاً بمعصمه الهامد وجميع الأعين ترقب الطبيب، الذي تعقدت جبهته أكثر عندما قال له أبو عايض:
هاه.. بشر يا دكتور؟ وش طلع معه، تراه سلم علي الصبح وهو بخير ولا يشتكي من شيء، أظن معه دوخه وغشي عليه.
أخذ الطبيب يتلمس رقبة دخيل، وهو يلمسها ويحركها ذات اليمين وذات الشمال مسمراً عينيه في الفضاء.
يُلح أبو عايض:
- يا دكتور.. وشبه دخيل؟
يشق الطبيب ثوب دخيل الجديد، والذي قايض ثمنه بخميل حِنطة مع جاره ناصر.
الثوب يتمزق، والطبيب يجمع قبضتيه، ويدفع بها صدره كما تفعل زوجة دخيل وهي تصنع الخبز الذي كان يُحب غمسه مع الشاي.
يردد الطبيب:
(واحد، اثنان، ثلاثة)، وهو يعجن صدر دخيل، وينفخ عبر فمه، ولكن صدر دخيل لا يشبه العجين، فهو يندفع مع كل نفخة يُمد بها الطبيب رئتيه ويعود ليرتخي.
يُكرر الطبيب ذات العملية، والأصوات من حوله لا تسأم السؤال، والعويل لا يكف.
بعد عدة محاولات يتوقف الطبيب عن عجنه والنفخ فيه، وينظر إلى الجميع:
(عظم الله أجركم، الرجل مات).
(لا إله إلا الله) هي كل ما بقي يتردد مع تزايد البكاء والصراخ، بينما اللطم يصل للأفخاذ:
- (اذكري الله يا شريفة، ما أحد مخلد في هاذي الدنيا).
في المقبرة حين حثت جماعته التراب على قبره، وبعد أن صلوا عليه صلاة لا سجود بها، تزايدت الهمسات:
- عين.. ما صلت على النبي.. والله أنها عين مصلح أعرفه ما أحد سلم منه. حتى حرمته (5) ذبحتها عينه، من نهار ما ضوت عليه (6)، والله إني علمت دخيل، ولا سمع مني من يوم شفته متهندس (7) ما بيربحونه.
- يقولون يوم غسلوه لقوا على ظهره أثر كف يد بخمس أصابع.
- بسم الله علينا، الله يرحمه ما عاد ينفع الميت إلا عمله.
المآذن تصدح (الصلاة خير من النوم، الله أكبر.. الله أكبر..).
أحد الأطفال يركض:
- دخيل قام.. دخيل قام وينادي حُرمته.
اتجهت الأنظار إلى المقبرة وهالهم منظر دخيل يطل برأسه من القبر وهو يصيح:
يا شريفة.. قولي ما شاء الله!
(1): قبيلي: قبل قليل -من لهجات قبائل جنوب الطائف.
(2): دقه: أذى، سوء
(3): نوقيه: من الوقاية من الشيء.
(4): كفوه: دوخه، إعياء، إغماء.
(5): حرمته: زوجته.
(6): ضوت عليه: تزوجت به.
(7): متهندس: متأنق.