مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

النُخَبُ الزائفة.. والكَتَبَة الـ(دايت)

لعِبتِ النُخَبُ الثقافية والفكرية دوراً محورياً في حياة الشعوب والأمم، وقدّمت لجماهيرها زاداً غنياً بالسعرات المعرفية من شتى حقول الآداب والعلوم، ورفعت من وعي شعوبها التي أدركت عصر التنوير قبل غيرها من الأمم. ولم تكن النُخَبُ الثقافية العربية بمنأى عن ذلك الدور، إذ قادت جمهورها إلى مشارف النهضة قبل أن تختلف مشاربهم في أوائل القرن التاسع عشر، وتتفرق صفوفهم بين الأيديولوجيات المتناحرة، والشللية والمناطقية، ومنابر المصلحة الشخصية. وقد أتاح ذلك الفرصة لفئة من الهواة لاستثمار مواهبهم، وملء الفراغ الذي تركته النُخبَ الفاعلة في ثقافة الجيل الجديد، الذي لا يُفرِّق بين (الغثِّ والسمين) بعيداً عن أعين النُقّاد وأقلامهم الحادة.
تلك الشريحة من الهواة المتثاقفين تعيش بين ظهرانينا منذ الأزل، وكان لها حضورها في المجالس والمنتديات التي يُجيد روّادها الصفير والتصفيق، وقد أعيد تدوير هذه النُخَب الهزيلة منذ بداية القرن الحالي لمساندة الأيديولوجيات التي تنتمي إليها، لتسكب غثاءها على الأوراق الصقيلة، ويعلو نعيبها في مقابر الجهل، ليصل صوتها إلى أُذن القارئ رغم أنفه. ولإصرار هذه النُخَب الهزيلة على الكتابة مبرّرات ومآرب أخرى!، وتدافع عن غثائها بالقول: (لكلّ فولة كيّال!)، وهذه حجة صحيحة وقوية لا غبار عليها ولا طين، فبعض القراء يُفضّلون وجبتهم الثقافية منزوعة الدسم والملح والسُكّر، وهم أحرار فيما يشتهون، وللناس فيما (يقرأون) مذاهب، وإنك لا تهدي من أحببت!
وخلال الأزمات التي اجتاحتْ البلدان العربية في العقدين الماضيين، سطع نجم هذه النُخَب الزائفة، واستقطبتْ جمهوراً لا بأس به بفضل تطوّر تقنيات وسائل الإعلام والتواصل، إلى جانب غياب النُخَب الحقيقية التي فقدتْ بوصلتها، وتاهتْ في شوارع الأيديولوجيا، أو أُسكِتَتْ بفعل فاعل، وكانت محصلة ذلك التيه فقدان الثقة بين رموز الفكر والثقافة وجمهورها الذي اصطفّ خلف نُخَب هشّة صُنِعَتْ على عجل. وكأنّ هذا الجمهور هو كالذي أشار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عن أشباههم، إذ قال: (يَخرُجُ في آخِرِ الزَّمانِ قومٌ أحداثُ الأسنانِ يَقْرَؤون القرآنَ بألْسِنَتِهم، ولا يُجاوِزُ تَراقِيَهم..)، وهذا يتطابق تماماً مع المواصفات والمقاييس التي يتحلى بها المثقفون الخُدّج، وغير الناضجين، وأشباه القُرّاء.
وإنّ مثل هؤلاء الكَتَبة الـ(دايت) لا تعنيهم القِيَم ولا النتائج، ولا يبحثون عن الحِكمة والمعرفة، ولا هدف لهم سوى الشُهرة وحُبّ الظهور، فالعمل الأدبي أو الفكري، وكذلك المقال الصحفي ليس إسهالاً حروفياً لملء المساحة المخصّصة لكاتبه، ولا هو حديث مجالس لتزجية الوقت، ولا صفحة (تسالي) لراحة القارئ، وإنما الكتابة هي تثقيف وتوعية، وارتقاء بالفكر والذائقة، وتهذيب وتشذيب للعقل والمشاعر، ومسؤولية نبيلة وأمانة ثقيلة، ينبغي حملها بحذر وإنجازها بنزاهة، لأنّ جوهرها هداية أو غواية تهتدي بها أو تَضِلُّ شريحة واسعة مِنَ القُرّاء، وثمارها سواء السبيل، أو الشرّ المستطير، فالحذار.. الحذار مِنْ أولئك النُخب الزائفة، وخذوا الأدب والحِكمة مِن أقلام العاقلين.

ذو صلة