في زمن تفرض فيه مسألة العلاقات والتداخلات بين الأشياء يصبح الفن هو النوع المفضل والمبدع الحقيقي هو الوحيد القادر على مواجهة الفرد بذاته وإجباره على مواجهة أفكاره ومشاعره وتناقضاته مواجهة حية ومباشرة.
ومن خلال هذا المنطلق يطالعنا العرض المسرحي (الظل الأخير) لفرقة (الوطن) السعودية، تأليف (فهد ردة الحارثي) سينوغرافيا وإخراج (خالد الرويعي) إشراف (نايف البقمي) ضمن فعاليات، وعروض المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي في دورته 31، وعلى خشبة (المسرح القومي) في القاهرة.
حيث نجد أنفسنا أمام نوع مختلف من الدراما يختلف عن المعنى التقليدي لها، دراما بلا أحداث أو حوارات أو مونولوجات، فقط بعض من الكلمات أقرب إلى النثر الشعري المطعم بمجموعة من التشكيلات الجسدية ذات الطابع الجمالي والمعرفي. فالفعل هنا هو المحرض الرئيس لانفعالات الممثل، كما أنه يوحد الفكر والشعور والمخيلة والتعبير الجسدي للممثل الشخصية في كل لا يتجزأ.
إشكالية الكلمات
اهتم الكاتب والمؤلف المسرحي الواعي (فهد ردة الحارثي) في نصه المسرحي (الظل الأخير) بعمق الكلمات، وعذوبة المعنى، ودقة المضمون، منسجاً من مخيلته الإبداعية مزيداً من الرؤى الإنسانية والقضايا الاجتماعية التي أعطت للعمل طابعاً أكثر شجناً ووجدانية.
كما انشغل بطرح العديد من الأسئلة الفلسفية التي تتعلق بفكرة الانتظار، والسكون الكامن الناتج عن القيود التي يصنعها الإنسان لذاته داخلياً، فتتحول بالتالي لقيود اجتماعية خارجية، تعمق قضية فلسفية أخرى وهي فكرة الصراع بين (الأنا والآخر) الناتج من فكرة الصراع بين (الأنا والأنا).
يفتح العرض على خمسة ممثلين (بدر الغامدي، عبدالله الحمادي، عبدالوهاب الأحمري، عمر مسعود، ورزان البرق) يرددون بعض الكلمات بشكل متكرر كلامياً ومختلف أدائياً، ما أعطى مساحة واسعة لتعدد التأويلات التفسيرية والمعاني الضمنية للخطاب المسرحي.
هذا إلى جانب ظهور ملمح صوفي قرب نهاية العرض من خلال (رقصة المولوية) بما تحمله من طاقة سمو ونور وخلاص.
سينوغرافيا العرض
ركز المخرج خالد الرويعي على الخطوط العريضة للنص المسرحي، ونجح من خلال اهتمامه بأدق تفاصيل العمل وتمكنه التقني في خلق حالة شعورية من خلال تضافر جميع عناصر العرض المسرحي بداية من اختياره للنص المسرحي مروراً بإعداد الممثل والديكور والإضاءة والملابس والمكياج.
فعلى الرغم من أن الديكور كان بسيطاً معتمداً على شكل وروح (المسرح التجريبي) إلا أنه استخدم مجموعة من (الموتيفات) المسرحية ذات الدلالات العميقة والأبعاد الجمالية للمنظور المسرحي بشكل عام مثل (الحبال، الأسلاك الضوئية، وشاشة عرض تتصدر عمق خشبة المسرح وتعرض مشاهد كونية بشكل متلاحق)، فالخشبة بأكملها فارغة ليس بها سوى أجساد الممثلين، مرتدين الأسود بشكل موحد وعلى صدورهم قطعة من القماش باللون الأبيض، ما يفتح أفق المتلقي بمزيد من التفسير والتأويل، وكذلك جاءت الإضاءة لـ(باسل الهلالي) ذات الألوان المختلفة والمتنوعة بين الألوان الباردة والألوان الحارة تعبيراً عن الحالات الشعورية المختلفة التي عبر عنها العرض، كما استخدم الإضاءة المنبعثة من الشاشة أحياناً بمثابة الكشافات الضوئية التي تسلط على الجمهور، وطبقاً (للمنهج البريختي) لكسر الإيهام المسرحي في أحيان كثيرة لمخاطبة عقل المتلقي أحياناً وليس مشاعره فقط.
فقد وظف جميع عناصر العرض المسرحي (السينوغرافيا) توظيفاً احترافياً واعياً (بالمسرح التجريبي) فقد جاء الديكور مقتصراً على عدد قليل من القطع الديكورية ولكنه اعتمد على (الموتيفات المسرحية) بشكل أكثر، وذلك بالتضافر مع الإضاءة التي اعتمدت على البؤر الضوئية التي لعبت دوراً كبيراً في خلق عوالم مختلفة ومتنافرة أحياناً، كما شكلت (حلبة صراع)، صراع (الأنا والآخر)، كما قامت الإضاءة أيضاً بدور الديكور في أحيان كثيرة خلال النقلات والتحولات الدرامية داخل العرض المسرحي، وكذلك فعل نفس الأثر التأليف الموسيقي لـ(يوسف قازاني).
كما ترتكز سينوغرافيا العمل علي مجموعة من الصور السيميائية كالصور الجسدية، الضوئية، التشكيلية، اللفظية وأيضاً الصور الأيقونية، ومن ثم فهي تعد عملية تطويع لحركة فن الإضاءة والمناظر بالتناغم مع العلاقات السمعية البصرية بين أجزاء العمل المسرحي، وذلك بصفتها فناً متكاملاً في عناصره يقوم علي نقل المجرد وتحويله إلى واقع عن طريق التجسيد وإعادة خلق (الفضاء) من خلال تجسيد النص المسرحي داخل رؤية تتشابك فيها الفنون التشكيلية مع الفنون المسرحية، وكذلك بالتناغم مع الملابس التي تتناسب مع روح وجوهر العرض المسرحي.
الممثل بين الحرفية والحضور
فقد قُدم الممثل هنا كأيقونة داخل بانوراما إنسانية اجتماعية تبدأ بالفرد وتنتهي بالمجتمع ككل، مستخدماً المنهج البريختي (المسرح الملحمي) الذي اعتمد على فكرة (التغريب) فالمتعة هنا متعة عقلية تهدف إلى التغيير عن طريق كسر الإيهام لدى المتفرج الذي يتعاكس تماماً مع المسرح الإيهامي عند ستانسلافسكي، حيث يقف هنا الممثل على مسافة تباعدية بينه وبين الشخصية الدرامية التي يؤديها، مركزاً على أدواته الخارجية، (تعبير الوجه، وحركة اليد ذات الأبعاد المختلفة)، وذلك بالتوافق مع الحضور المسرحي القوي المفعم بالطاقة التمثيلية الهائلة للممثلين الخمسة.
هكذا قدم العرض المسرحي السعودي (الظل الأخير) عرضاً يطرح المزيد من القضايا في ظل هذه العملية الإبداعية بما يموج بها من فكر، وبما يترسب في أنسجتها من مبادرات وتيارات فكرية ورؤى جمالية، فبين الدقيقة والأخرى تبرع إبداعات جديدة ومختلفة لا ينفصل الشكل فيها عن المضمون بل يبقى هو النسق الجمالي الذي يتخلق من خلاله المعنى والتجربة الفنية.