مجلة شهرية - العدد (583)  | أبريل 2025 م- شوال 1446 هـ

جدي وندبة قلبي

صغيراً ملتصقاً به أحاول أن أحظى بكامل وقتي معه، أتعلم منه تضاريس الأرض وأسرارها، يهمس إليها أن جودي بثمارك لصغاري، فتفعل.

أحفر كلماته، ملامح وجهه تظهر جلية تضاريس الزمن عليه، يمتلئ بالحياة والأمل ، أرجو أن يمنحني القدر مزيداً من الوقت معه.
جدي الذي عشق الأرض ومنحها كل وقته فمنحته الحياة وذاب فيها.
كنت الصغير وسط أحفاد كثر يتهافتن للذهاب معه إلى موعد الحصاد الكبير، حيث ينمو المحصول سريعاً، يجتمع أفراد العائلة، يوم حافل للصغار لمعة عيونهم تُوحي بذلك.
مبكراً ينهضون، على طول الطريق تسمع أهازيج شتى..
(كلُه على الله.. على الله، القمح أهو طاب.. على الله، طلب الحصاد.. على الله، حصاده أتأخر.. على الله، والسبل أتكسر.. على الله، بخت العيال.. على الله، الصيفه حلال.. على الله).
لكل منا دوره، من يحمل الماء والطعام ومن يسارع ليساعد في جمع السنابل وتجهيزها.
أنا هنا للمرة الأولى أرى تلك الآلة الغريبة (الدرّاسة) التي نضع فيها السنابل لتخرج لنا حباً ذهبياً.
أقف مندهشاً أُربت على كتف الأرض وأتمتم ببعض كلمات.
تتوالى الأيام الجيدة بعد موسم حصاد القمح، فالذهاب إلى ماكينة الطحين يوم مميز أيضاً، مكان ضخم يحتوي على ماكينات عدة، أن ترى بعينيك كيف تتحول الحبوب الذهبية إلى دقيق أبيض زاكٍ، أحببت كثيراً الذهاب مع أمي وعماتي لا من أجل الكثير من الحلوى فقط بعد يوم شاق وطويل؛ ولكن من أجل رؤية تلك الآلات الضخمة وطريقة عملها ورائحة القمح ويالها من رائحة، بياض القمح أصبح يلون ملابسنا جميعاً.
يأتي يوم (الخبيز) صنع الخبز المنزلي في منزل جدتي وطقوسه، بداية من وضع الدقيق والماء بنسب محفوظة وخلطه جيداً وتركه ليختمر ويزداد حجمه، يلتف كل أبناء العائلة حول الفرن البلدي (الصاجة)، وهو مصنوع من الطوب والطين، ويشتعل بالحطب والقش (أعواد الذرة بعدما يجف)، يتسابق الصغار أيهم يجمع أكثر، رائحة الخبز تغزو المنزل الكبير، آخُذ رغيفاً أضع فيه السكر أرجعه مرة أخرى في الفرن للتحميص أتناوله ساخناً والسكر يذوب في فمي.
أتسابق مع الصغار في فناء الجد الكبير أَسقطُ هنا والدماء تتساقط من يدي، يهرع جدى بي إلى مستوصف القرية الصغير، أعود مُحملاً بالكثير من الحلوى وندبة صغيرة في ذراعي الأيسر.
ذات مساء أجد الطبيب مهرولاً في المنزل، يبتعد الأطفال بأوامر آبائهم بعيداً، أظل أراقب غير مبال للأوامر، أجد جدي مغطى تماماً بالبياض، تزداد الأوامر بالتوقف عن النحيب والصراخ ، أجد مزيداً من الندبات في جسدي الصغير لكن ندبة بارزة احتلت قلبي تماماً.

ذو صلة