التسامح هو أهم الدروس التي ينبغي أن نتعلمها، لذلك فقد كتبت هذا الكتاب لنفسي كتذكرة بأنني أود بالفعل أن أنهي المعاناة التي سببتها لنفسي وللآخرين بسبب إصداري للأحكام ومكابرتي لأن أسامح.
وأشعر من المرات التي تمكنت فيها من فهم دروس التسامح بأنها منحتني إحساساً بالحرية الشخصية، والأمل، والطمأنينة والسعادة التي لم أحظ بها من أي طريق آخر، ولكنني أعلم أيضاً أن التسامح ليس شيئاً من تلك الأشياء التي نستطيع إتمامها في حياتنا، إنه عملية مستمرة وفي تطور دائم، إنه لا نهائي، لأننا طالما نسكن داخل أجسامنا فهناك جزء منا سيجد ما يستدرجه مراراً وتكراراً إلى إصدار الأحكام على الآخرين.. بهذا الحديث افتتح جيرالد ج. جامبولسكي كتابه الموسوم بـ(التسامح أعظم علاج).
ما هو التسامح؟
يقول جامبولسكي: بالتأكيد أننا سنحظى بعلاقات أكثر وئاماً عندما نتوقف عن إخبار الآخرين كيف يحيون ويبدؤون في ممارسة الحب والتسامح. من خلال مفهوم الحب والروح، فالاستعداد للتسامح هو أن ننسى الماضي الأليم بكامل إرادتنا، إنه القرار بألا تعاني أكثر من ذلك، وأن تعالج قلبك وروحك. إنه اختيار ألا تجد قيمة للكره، أو الغضب، وإنه لتخلٍّ عن الرغبة في إيذاء الآخرين بسبب شيء ما قد حدث في الماضي. إنه الرغبة في أن نفتح أعيننا على مزايا الآخرين، بدلاً من أن نحاكمهم أو ندينهم.
فالتسامح إذن هو أن نشعر بالتعاطف والرحمة والحنان، ونحمل كل ذلك في قلوبنا، التسامح هو الطريق إلى الشعور بالسلام الداخلي والسعادة، الطريق إلى أرواحنا، والشعور بهذا السلام متاح دائماً لنا، يرحب بنا، وإن كنا لا نرى لافتة الترحيب ولو للحظة، لأنها أعمت بصائرنا عن رؤية غضبنا.
ويذهب جامبولسكي إلى أن بوسعنا أن ننظر إلى التسامح وكأنه رحلة، تلك الرحلة التي تصحبنا إلى كينونتنا الروحية، إلى عالم الحب المتنامي وغير المشروط. ومن خلال التسامح نتقبل كل ما تهفو إليه قلوبنا، فنتخلص من خوفنا وغضبنا وآلامنا لننسجم مع الآخرين ونشعر بسمو الروح. أي أن التسامح هو الخروج من الظلمة إلى النور، ومهمتنا على الأرض أن نسمح لأنفسنا أن ندرك أننا كالنور للعالم، ويسمح لنا التسامح أيضاً بالفرار من ظلال الماضي سواء كانت تلك الظلال لنا أو لشخص آخر.
ومن ثمة فمن شأن التسامح في نظر جامبولسكي أن يحررنا من سجون الخوف والغضب التي فرضناها على عقولنا، فهو يحررنا من احتياجنا ورغبتنا في تغيير الماضي، فعندما نسامح تلتئم جراح الماضي وتشفى، وفجأة ندرك ونرى حقيقة حب الله لنا.
وتحت عنوان (العقل غير المتسامح)، يخصص جامبولسكي حديثه عن الأنا، حيث يقول: من المفيد أن نفكر في الأنا وكأنها نظام له ثوابت خاصة به، إذا كنا نريد ذلك فيمكن أن نتقبل ثوابته أو نبحث عن طرق أخرى ننظر بها إلى العالم، وبالطبع، فإن علينا أن نتذكر أن (الأنا) هي جزء من كينونتنا، وكلما تنامت قدرتنا على إدراك (الأنا) تحررنا أكثر، وأصبحنا أقدر على اختيار حياة أكثر حباً وسلاماً.
ويدعو جامبولسكي إلى التفكير في نظام (الأنا) على أنه قائم على الشعور بالخوف والذنب واللوم، وإذا كان علينا أن نختار مجرد اتباع مبادئها الإرشادية فسنجد أنفسنا دائماً في حالة من الصراع، وسوف يتسرب كل سلام أو سعادة حصلنا عليها دون أن ندرك ذلك. ومع إدراك عمل الأنا، فينبغي ألا يثير دهشتنا أنها لا تؤمن بالتسامح، فسوف تبذل في الواقع كل جهدها، لتقنعنا أن لا أحد في العالم كله يستحق تسامحنا، وإنها لتصل إلى ما أبعد من ذلك، فتقنعنا بأننا أنفسنا لا نستحق هذا التسامح، فهي تتمسك وبقوة الاعتقاد بأن الناس يفعلون أشياء لا يصح أن نسامحهم عليها.
ويرى جامبولسكي أن الأنا في غاية الذكاء، فهي تدري كيف تختار شهودها، ويمكنك أن تتأكد من أن لديها عيناً ثاقبة تتخير بها أولئك الذين يوافقونها فقط، فالأصدقاء الذين اصطفيتهم اليوم، وأنا في الطريق الروحي يختلفون تماماً عن أولئك الذي كانوا حولي خلال فترة أخرى مغايرة. إذن فالأنا مليئة بالمتناقضات، فعليها مثلاً أن تخفي عنا حقيقة أنه عندما نكبح غضبنا عن عقاب الآخرين، فنحن نسجن أنفسنا، وثمة سر آخر وهو أن أفكارنا غير المتسامحة تخلق فجوة في قلوبنا، وذلك لا يسبب لنا فقط الإحساس بالتيه والحزن ولكنه يمنحنا أيضاً من الإحساس بالسلام الداخلي والحب، هذه الفجوة تبعدنا عن بعضنا بعضاً وعن انسجامنا الروحي مع الآخرين.
العقل غير المتسامح للأنا لديه دائماً مخزون وافر من الخوف، والبؤس، والألم والمعاناة واليأس والشك والضجر. إنه العقل الذي يرى الأخطاء كخطايا لا يمكن نسيانها. وتقدم الأنا مجموعة من الأسباب كي لا نسامح نذكر منها:
- هذا الشخص قد آذاك بالفعل، فيستحق غضبك، ويستحق ألا يشعر بحبك نحوه، وكذلك يستحق أي عقاب آخر.
- إذا سامحت، سيكرر هذا الشخص نفس الفعل الذي ضايقك مرات ومرات.
- الشخص الذي يقلل من شأنه هو فقط الذي يكون على استعداد للتسامح.
- إذا سامحت فأنت تتخلى عن كل إحساس بالأمان.
فما الحل لهذه المشكلة التي تسببها الأنا؟
يرى جامبولسكي أنه إذا كنا نريد التعرف على قيمة التسامح أن نسامح كل الناس، وكذلك أنفسنا، فإنا علينا أن نغير أنظمة معتقداتنا ويمكننا أن نبدأ بالتخلي عن معتقد الأنا بأننا حتماً سنجد شخصاً نلومه عندما يقع شيء خطأ، ويمكننا أن نعتنق معتقدات جديدة في قلوبنا، تسمح لنا برؤية قيمة التخلي عن لوم الذات ولوم الآخرين والاستسلام للحب.
وإحدى هذه الطرق -حسب جامبولسكي- التي يمكننا أن نتخذها هي تغيير الطريقة التي نرى بها أنفسنا (من تكون؟ وماذا تكون؟) الأنا تجعلنا نندمج مع الجسد بدلاً من أن نرى أنفسنا كمخلوقات روحية تعيش لفترة محددة في أجسام مادية. وإذا اعتدنا أن تكون لدينا الرغبة في النظر إلى أنفسنا وإلى من حولنا ككائنات روحية لا كأجساد فسيصبح من السهل أن نرى قيمة التسامح.
ويختم جامبولسكي بالتأكيد على أن الإرادة هي مفتاح اللغز الذي يمنحك القوة على المضي قدماً في عملية التسامح، وعندما تبدأ بالتنفيذ، وتفضي إلى نفسك بكل ثقة بأنك تأمل في التخلص من كل الهموم وتفوض غضبك إلى أسمى حقيقة في نفسك إلى القوة العليا إلى الله، سوف يبدأ غضبك في التحول إلى محبة. عندما ننهض بتحمل مسؤولية إزالة العوائق وفتح الطريق للحب من خلال التسامح فياله من شعور بالمتعة والسلام والسعادة.