للنفس البشرية قوانين تسير عليها، ونواميس تعمل وفقاً لها، تبدع غاية الإبداع عندما تُراعى تلك القوانين، وتضيع طاقاتها وتهدر إمكاناتها وتبخس مواهبها وتعطل قدراتها عندما يتجاهل صاحبها تلك النواميس.
سياسة النفس مبادئ ينبغي للمرء أن يتعرف عليها، تشبه الكتالوج الذي يكون بصحبة الأجهزة والاختراعات، يكون دليلاً للتعامل معها، فللنفس ساعات إقبال وساعات إدبار، ولها مداخل ومخارج، ولها عيوب ومميزات ولكل حالة منهما قواعد ينبغي أن تراعى، فمراعاة سياسة النفس يخرج طاقاتها ويصلح عيوبها ويطور مميزاتها ويحسن من أدائها ويرقى بها لصفوف الكمال البشري الممكن.
لسياسة النفس أصول عديدة ومبادئ كثيرة نستعرض في السطور التالية بعضاً منها، فهذه محاولة من الكاتب لا ترقى للكمال، لكنها دلالة للآخرين ليكملوا النقص ويسددوا الخلل وما لا يؤخذ كله لا يُترك جله.
أولاً: أن لكل نفس ما يوافقها من أعمال وما يلائمها من طباع وما يسايرها من أصحاب ورفاق، فهناك من يفضل الأعمال الذهنية وهناك من يؤثر الأعمال البدنية، وهكذا في الطباع والصحاب، فمن كان طبعه الانبساط أحب ذلك في صحابه، ومن كان طبعه الجد الدائم طلب ذلك في رفاقه وأصدقاءه، فينبغي للمرء أن يختار من الأعمال والصحاب من يتوافق مع طباعه، ويُراعى ذلك في الزواج، فيتزوج من يتوافق مع طبعه وشخصيته، فليأخذ المرء ما يتوافق مع طبعه من عمل وصحبة ورفقة ونشاط، فما يصلح لزيد قد لا يصلح مع عمرو وهكذا.
ثانياً: أن للنفس إقبال وإدبار، فالنفس لا تنشط دائماً للعمل ولا تعرض عنه دوماً، وإنما هي ساعة وساعة، فينبغي للمرء أن يغتنم ساعات إقبالها فيكثر من العمل ويجتهد فيه، فإذا جاءت ساعات الإدبار والإعراض فلا يكلف نفسه ما لا تريد، بل يكلفها بالقليل، ويرضى منها باليسير، حتى إذا أقبلت ونشطت أسرع في المسير وزاد من عمله.
ثالثاً: من طبيعة النفس البشرية التهرب من التكاليف والمسؤوليات والأعمال، وهذا الهروب له صور عديدة وحيل كثيرة، فتارة تكون الحيلة: صعوبة العمل وتارة تكون التسويف وتارة تكون انتظار العمل المناسب، وتارة تكون البحث عن أفضل طريقة لأداء العمل، فينبغي أن لا ينخدع المرء بتهرب نفسه من الأعمال، بل يغمسها في العمل شيئاً فشيئاً، فليبدأ بالقليل، فإذا انشرح صدره للعمل زاد منه حتى تألفه وتحبه.
رابعاً: الرفق بالنفس يبلغها آمالها، والتلطف بها يوصلها لأحلامها، واللين معها يوصلها لخير أعمالها، فينبغي للمرء أن يرفق بنفسه، فلا يكلفها فوق سعتها، ولا أكثر من طاقتها، وإذا دخل وادي العمل فليدخله برفق رويداً رويداً حتى تأنس نفسه من النشاط الجديد.
خامساً: أن يعطي المرء لنفسه شيئاً من حظوظها وشهواتها التي تحبها مما لا يضرها أو يفسدها، وليجعل لها مكافآت وأقساطاً من الراحات، وليقطع العمل ليكافئها، فالنفس كالدابة إذا وجدت من يحسن إليها ويطعمها اللذائذ أسرعت في المسير وأخرجت أفضل ما لديها فأصبحت من العظماء وأضحت من النبلاء، وهكذا الإحسان يخرج مكامن النفس ويصلحها.
سادساً: الحذر من عدو الإنتاجية وخصم الفاعلية والعمل المنتج وهو الملل، فالملل من أخطر الأشياء، فلا ينبغي للمرء أن يعرض نفسه للملل أو السأم من العمل، فلا يبقى في العمل حتى يصل للملل، بل يروح عن نفسه، وليأخذ أقساطاً من الراحة، وليجدد نشاطه، ولينوع من أعماله، ولا يبقى في عمل واحد، بل يتنقل بين الأعمال المنتجة المختلفة.
سابعاً: الحرص على انتقاء البيئة المناسبة المعينة على الإنتاج والدافعة للعمل البناء، فيختار المرء من الرفاق المنتجين، ومن الصحبة الصالحين، ومن الزملاء من يتعايش معهم ويتلاءم معهم، ومن الأدوات ما يعين على الإنتاج ويدفع لمواصلة العمل، ويبتعد عن العوائق.
ثامناً: العادة النافعة من أقوى وسائل إصلاح النفس وتغييرها، فلتكن لك عادات طيبة تبني ولا تهدم، وخير وسيلة لبناء العادات الحسنة البداية بأقل القليل ثم المداومة على هذا القليل عدة شهور، فإن أردت أن تكون قارئاً فاقرأ صفحة يومية، وإن أردت أن تكون كاتباً فاكتب فقرة يومية وهكذا في الرياضة والتفكير والطعام الصحي، ولا ترهق نفسك بكثرة العادات اليومية، وإنما ابن عادة واحدة جديدة كل ثلاثة شهور.
تاسعاً: لا تيأس من إصلاح نفسك، ولا تمل من تغييرها ولا تسأم من تعديلها، فلديك طرق عديدة لإصلاحها، وأساليب شتى لتغييرها، قد تكون مشكلتك أنك لم تعثر على الطريقة المناسبة، أو أنك تتعجل النتائج، أو تكبر اللقمة فتصاب بالغصة، فتلطف بنفسك ولا تتعجل التغيير واصبر على المسير.
عاشراً: لا تعتمد على قوة إرادتك في النجاح والتغيير وإصلاح النفس، بل اعتمد على استطاعتك، فلا تكلف نفسك فوق طاقتها، ولا تتخذ قرارات كثيرة، فتلك الكثرة من القرارات تضعف قوة إرادتك، فلا تجعل كل يوم عمل جديد أو عادة حديثة تسعى لبنائها، لأنك بكثرة القرارات ستزداد عدد الإخفاقات، مما يجعلك تصل لليأس من التغيير فتترك العمل وتعيش في إجازة مفتوحة من العمل وتظل تعيش في الأماني وأحلام اليقظة، فاجعل سفينتك تقطع كل يوم خطوة صغيرة وداوم عليها لتصل.
الحادي عشر: كن وسطاً مع نفسك لا تعطها كل ما تحب ولا تمنعها من كل ما تحب، بل ساعة وساعة، فساعة تدعها تفعل ما تشاء ما لم يضرها، وساعة تمنعها ما فيها ضررها ما دام فيه نفعها، لتدرب نفسك على الصبر عما يضرها، وتعلمها الصيام عن شهواتها المحرقة.
الثاني عشر: لا تبالغ في جلدها فتنفرها، ولا تفرط في تدليلها فتسقيها من كأس غرورها، فالنفس بحاجة للثقة والاعتداد بنفسها، فتثني عليها وتشعرها بإنجازاتها، وهي في أمس الحاجة لذلك في وقت الإخفاق واليأس والإحباط، وبحاجة أيضاً للزجر والتأنيب حتى لا تسلك طرق الغرور وسكك الإعجاب، وليكن العلاج بمقدار فلا إسراف ولا تقتير.
الثالث عشر: تخلص من مدمرات نفسك، ومبددات طاقتك، ومهلكات قدراتك، وهي عديدة ينبغي أن تحذر منها، ومن تلك المدمرات: الحسد ومقارنة النفس بالآخرين لتزدري نفسك ومحاولة أن تصبح نسخة من الآخرين وعدم الرضا عن قدراتك وعن مواهبك وأن تسعى للقيام بما لا يتوافق مع شخصيتك ولا طباعك وإمكاناتك.
الرابع عشر: الحذر من أسباب خداع النفس وضلالها، فالنفس لها أساليب عديدة في الخداع والتضليل، ومن أعظم تلك الأساليب اتباع الهوى لما تشتهيه من الشهوات، فإذا اجتمعت الشهوة والهوى للنفس فهو بداية الضياع والدمار، فالنفس عندما تتبع هواها تزينه، فتريك الحق باطلاً، والخطأ صواباً، والضار نافعاً، وهكذا، لذلك كان العقلاء يتهمون النفس عندما تسير خلف هواها، وتتبع شهواتها. وتمييز الصواب من الخطأ وقت الهوى من أصعب الأشياء لأن العقل يكون في سكرة، والرأي في عمى، والبصيرة نائمة والفكر غائب، فلتحذر من اتباع الهوى المغموس في الشهوة، فاتباع الهوى من أخطر الأمراض النفسية، لذلك كثر في القرآن الكريم التحذير من اتباع الهوى.
الخامس عشر: بداية النجاح وتميز نفسك في اكتشاف مواهبك ومعرفة طاقاتك والوصول لشغفك، فتستغل طاقاتك وتخرج مواهبك، وهذا الاكتشاف يحدث بعدة طرق منها القراءة النافعة، ومنها معرفة الأشياء التي تستمتع بها، ومنها الرضا بقدراتك ومحاولة توجيهها لما يتوافق معها، وعدم تقليد الآخرين فيما لا يصلح مع خصائص نفسك.
السادس عشر: كن وسطاً في علاقتك مع الناس، فلا تجعلهم عوناً على نفسك فيدمروها، ولا تعتزلهم فتمنع نفسك من الاستفادة منهم، لا تبالغ في الإعجاب بآراء الناس فتمحو شخصيتك وتبخس رأيك وفكرك، ولا تفرط في الإعجاب برأيك فتصبح مغروراً دون أن تستفيد من آرائهم وأفكارهم، بل العاقل من يرفع من مكانة نفسه ورأيها ونظرها ويستفيد من آراء الناس ومقترحاتهم حتى ولو لم تقبلها نفسه لحدتها أو قسوتها.
تلك ستة عشر أصلاً من أصول سياسة النفس تفتح لك من مغاليق نفسك، وتدلك على مفاتيحها، فتعرف نواميسها، وتدري بقوانينها، فتستخرج طاقاتها وتستغل مواهبها لتتعامل مع ضعفها وقوتها لتنعم بصحبتها وتنفعها ولا تضرها وتبنيها ولا تهدمها تلك هي أصول سياسة النفس.