مجلة شهرية - العدد (576)  | سبتمبر 2024 م- ربيع الأول 1446 هـ

التحولات الاقتصادية بمسرح العلاقات الدولية

عند النظر إلى عنوان هذا المقال: التحولات الاقتصادية بمسرح العلاقات الدولية (في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين) يتبادر إلى الذهن عدة أسئلة، أهمها:
ما هو الحدث الذي وقع في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين، وكان سبباً رئيساً ونقطة تحول مفصلية (ولها تبعات راديكالية) في الراهن الاقتصادي العالمي، أهي تبعات جائحة كورونا؟ أم الحرب الروسية الأوكرانية؟ أم حرب 7 أكتوبر في غزة؟ وما لحقها من أحداث في باب المندب والقرن الأفريقي.
ما هي ملامح الاتجاهات الاقتصادية العالمية الجديدة، ومن ثم فرص استثمارية جمة بمثابة ظواهر اقتصادية في الحاضر، ومذاهب اقتصادية في المستقبل؟
ما هي أبرز التحولات الاقتصادية في عصر ثورة الاتصالات من زاوية التأثير في الفضاءات الآتية: فضاء مستقبل الأسواق العالمية الراهنة، وفضاء سلوك الفرد والمجتمع، وفضاء الاقتصاد التقليدي، والنشاطات الاقتصادية الصغيرة؟
في فضاء التجربة السعودية وعلى ضوء رؤية 2030، هل نجحت الحكومة السعودية في استغلال القوى الناعمة لتعزير الاقتصاد وفتح آفاق جديدة؟
ما هي أسس وخطوات التحول الفعال من اقتصاد النفط إلى اقتصاد المعرفة؟
إلى أي مدى تأثرت قيم المجتمع السعودي سلباً وإيجاباً مع التوجهات الاقتصادية الجديدة، بما في ذلك دور عامل القوى الناعمة في تقبل أو رفض التحولات الاجتماعية الجديدة الناجمة من التوجهات الاقتصادية الجديدة؟
إن حالات عدم اليقين التي تصاحب ثورة المعرفة التكنولوجية، من اقتصادية واجتماعية وتقنية، وتوفير فهم أفضل لما في الحاضر من تغيرات اقتصادية كبيرة، قد أسهم في تقديم تحليلات للعوامل الفاعلة التي تشكل الأنظمة الاقتصادية، وتخمين المقصد الذي تقود إليه هذه الاتجاهات. وتقوم فكرة أن ثورة المعلومات الحالية تصنع أنظمة جديدة للاقتصاد عامة، وللاقتصاد السياسي خاصة، تماماً كما صنعت الثورة الصناعية في أوروبا عند تفجرها الأنظمة القديمة، فلأول مرة في التاريخ تنتظم الشؤون الاقتصادية في منهج سعياً وراء المعرفة، وتدفع هذه القوى الجديدة لإدارة المعرفة باتجاه إعادة تصميم البنى الاقتصادية، حيث تتيح زيادات هائلة في الإنتاجية وتحولات معتبرة في العمل الروتيني وتوفير قنوات أكثر للتوزيع وافتتاح أسواق ضخمة جديدة وتسهيل المعاملات العالمية في كل المجالات تقريباً. ويتألف العمل من ثلاثة مباحث: يستكشف المبحث الأول القوى التي تحرك التغيير الاقتصادي، ويبين المبحث الثاني الآثار الاقتصادية الجزئية التي تترتب على بنية وسلوك مجتمعات الدول المتأثرة، في حين يفحص المبحث الثالث أنظمة الاقتصاد السياسي الجديدة - الناشئة.
القوى التي تشكل النظام الاقتصادي الجديد تعتمد على آراء وأفكار محصورة في قوى التغير الرأسمالي، والسيطرة على الطاقة الهائلة للمعرفة، والمحركات الإقليمية للاقتصاد العالمي، وتبسيط الإدارة وهو توجه اجتماعي جديد، وانتشار الأسواق الحرة على النطاق العالمي، والتعطش الواعي للتحديث، وقوى العولمة المؤثرة الأخرى تقوم كلها بصناعة وتوحيد العالم المتنوع في جسم متماسك، إذ يتحرك رأس المال والمعلومات والتكنولوجيا والأفراد عبر الحدود بحرية أكثر من ذي قبل نسبياً، وإظهار شكل آخر للحكم العالمي ثري بالحداثة وأكثر حرية. فالأشياء المتشابهة التي يمكن استخلاصها من الثورة الصناعية الجديدة لرسم خطوط ثورة المعرفة (وفي أي طريق) ينبغي للنظام العالمي الجديد أن يكون محوراً للأنماط الاقتصادية والسياسية السابقة إلى أنماط حديثة، وفي أي طريق يختلف عنها؟ وما أهمية هذا الرافد العميق في التاريخ؟
كثرت أفكار التغير الراديكالي منذ نصف قرن، وانتشرت بسرعة، وبقدر ما وهن الإيمان بالتقدم، كما يبدو، أبرزت نفسها ليس فقط في عصور ما بعد الصناعة، وما بعد الحداثة، ولكن أيضاً في العصر الذري، وعصر الحاسوب، وعصر الفضاء، وعصر الجينات، وفي سياق ملاحظة أبعاد التغيير الجارية في مختلف الاتجاهات في غالب الأحيان تكون متناقضة. الرأسمالية عملية ديناميكية وتطورية، ولم تعمل على توجيه التغير الاقتصادي وحسب، بل عملت وبدرجة متزايدة على توجيه الأبعاد الاجتماعية والسياسية والثقافية والشخصية للمجتمع، وذاك يدعو إلى طرح علم اقتصاد جديد تفسيري (أي يقوم بمهمة التفسير) ويمكننا من التأثير على التحديات والفرص الاقتصادية المتعددة.
يلاحظ التأثيرات الثورية لتكنولوجيا الاتصالات، وكيف أن القوى والقيود الأخرى أسهمت في تشكيل بنية الاقتصاد العالمي الناشئ، وتوصل المجتمع إلى أساليب لحماية نفسه من فوائض السوق، وحاولت الحد من سياسة التوجيه الحكومي للتدخل في شؤون السوق، والسياسة العامة، والنقابات حماية المستهلكين والبيئة والعمال، وهدفت السياسة الاقتصادية الكلية والسياسة التجارية إلى حماية الاقتصاد نفسه، بينما سعت الاتحادات الاحتكارية والشركات القابضة لحماية منشآت الأعمال من أهواء المنافسة المتواصلة. وبقدر ما ساعدنا مجتمع القرن العشرين الصناعي على توسيع شخصياتنا لتتجاوز أبعاداً معينة، كالطبقة والجنسية ومكان العمل، ومن ثم ولاءات جديدة.
فرضت التغيرات في المجتمع الصناعي تهديدات أكبر على نظام العشائر والأعراق والأديان، وأدت إلى عصر أعدنا فيه اكتشاف تمسكنا بمعتقدات أصولية، ولذلك فإن العصور الرأسمالية الجديدة لا تظهر فقط من خلال التقنيات الجديدة، ولا بصفتها اتجاهات إضافية فقط، ولا باعتبارها تغيرات بنيوية تحدث بعيداً عن إدراك أفراد المجتمع. بل إن القواعد الفريدة للمعرفة تقود إلى ثلاثة اتجاهات كبرى وهي بمثابة ثورات، بفضل دورها تحول قطاع الأعمال والمؤسسات الأخرى: التغيير من السيطرة إلى الحرية، ومن الخلاف إلى الوفاق، ومن المادية إلى المعرفة والروح، وهو ما يوحي بأن هذه القوى قد تحدث انقلاباً في الفكر الاقتصادي. فقد أرشدت تكنولوجيا المعلومات والمنافسة العالمية والمطالبات المتعلقة بالبيئة، إلى نشوء فئة من المستخدمين والمستهلكين أكثر استيعاباً للهرمية التقليدية لقطاع الأعمال.
الشركات تعيد تصميم أجهزتها البيروقراطية القديمة للأعمال، وتحولها إلى أنظمة أكثر كفاءة لتسليم السلع والخدمات، وتقلل من مركزية العمليات باتجاه ابتكار وحدات شبه مستقلة، وتعيد تعريف علاقاتها مع مختلف الأطراف، تصنع هذه التغيرات مزيجاً من التنافس والتعاون. فإن خطر التلوث على صحة الإنسان قد يتعذر تحمله في مدن معينة، ويتزايد تهديد الرفاهية، وإذا أريد للتنمية المستدامة أن تكون مستدامة حقاً (على المدى الطويل)، فلا بد من تغيير جذري في نوعية تلك التنمية. ويمكن للشركات التي تستعمل نظام الإدارة البيئية والحسابية لتحقيق النشاط الاقتصادي النظيف، أن توفر المال وتكسب الميزة التنافسية من وراء ذلك. ولكن ما زالت طرق الإنتاج النظيف بطيئة التطور، وضرورة الاتفاق على وجود تشريعات تضمن تحسين بيئة نوعية متميزة أمر حتمي، ويمكن للصياغة الجيدة للسياسات الاقتصادية والبيئية على حد سواء، جعل التنمية المستدامة أمراً بسيطاً ومجدياً.
ثمة اقتصاديون كثيرون يعتقدون أن الأسواق وليست الرأسمالية هي التي تنتشر في المعمورة، وأن هذين المفهومين لا يعنيان الشيء نفسه على الدوام، نظراً لأن أنظمة السوق أحياناً تتعارض مع العقيدة الرأسمالية. إن هذا التطور من شأنه أن يعني أن الناس ربما لن يفكروا باقتصاديات السوق (حركة رأسمالياً). وإذا كانت ثورة المعلومات ثورة اقتصادية حقيقية بالفعل، حيث يمكن مقارنة أهميتها بالثورة الصناعية (مثل ما تقدم ذكر ذلك)، ومن المعقول الاستنتاج أن المحصلة هي ظهور مجتمع مختلف على نحو مثير، وتوحي الأدلة التي تجمعت هنا بأن النظام الاقتصادي في القرن الحادي والعشرين سيقود إلى قوة الأسواق الحرة والمجتمع، ويحولها إلى فلسفة ومفهوم جديد على نطاق واسع لعلم الاقتصاد، وهناك فرص ممتازة ومواتية لتوزيع الاقتصاد بشكل أكبر باستخدام إستراتيجية النمو الأخضر والطاقة المتجددة ولعب دور رائد في التحول العالمي لاقتصاديات منخفضة الانبعاثات الكربونية.
يمكن للمملكة الاستفادة من التحول نحو النمو الأخضر والطاقة المتجددة لتركيز سياساتها على تطوير التقنيات الخضراء والمتجددة واليد العاملة الماهرة المرتبطة بها، والتي من شأنها أن تعكس الاتجاهات الإنتاجية وأن تمكن المملكة من النمو بوتيرة أسرع. من المتوقع أن يرتفع إجمالي الناتج المحلي للمملكة العربية السعودية في العام (2024م)، بدلاً من انخفاضه في العام الذي سبقه، ويعد التركيز على النمو الأخضر، والطاقة المتجددة، والمباني الخضراء، والنقل المستدام، وإدارة المياه، وإدارة معالجة النفايات، وفوق هذا وذاك سيُحدث التطور في التمويل على الطاقة الخضراء والطاقة المتجددة دوراً فعالاً للاستثمارات الجديدة في المجالات التي تقدم ذكرها.

ذو صلة