محمد بن شلهوب.. إدارة المال في بدايات التأسيس
عبدالكريم إبراهيم السمك: الرياض
ابن شلهوب رجل دولة
إن الذي يتابع سيرة محمد بن شلهوب في السنوات التي عاشها مع الملك المؤسس رحمه الله، يجد بأنه قد عاشها رجل دولة يركن إليه في المهمات الصعبة، فبعد الولاء والوفاء للملك عبدالعزيز، قابله الملك بمنح الثقة له في جميع مهامه التي ينيطه فيها، فقد تعددت مهامه وتنوعت. ففي باب الحملات العسكرية للملك كان ملازماً له ولا يفارقه، وكان في حملة استلام الأحساء والمنطقة الشرقية، من قبل الحاكم العثماني لها. كما شارك في توحيد الحجاز بنجد وضم جدة.
وكان من بدايات تاريخ توحيد البلاد هو الممول والمنتدب من قبل الملك عبدالعزيز في الإمدادات العسكرية شراءً من الكويت وتجّار السلاح.
المهام الوظيفية التي كلف بها
كثيرة هي المهام الوظيفية التي كلفه بها الملك عبدالعزيز، فقد كان من أكثر العاملين في ديوان الملك عبدالعزيز التصاقاً بمعيته، لأن طلبات الملك عادةً يطلبها منه، وقد اختزل الأستاذ الرويشد مهام شلهوب بما عرف عنه أنه مؤرخ ثبت، فيقول: كان شلهوب أحد كتبة الديوان الملكي، وكان أمين أسرار الملك، فهو وزير للمالية، وعنده بيت المال وهو خازنه، وذلك لما عُرف عنه من الأمانة والنزاهة، وقد أهّلته شخصيته التي جُبل عليها، في اختيار الملك عبدالعزيز لأن يكون من خيرة رجاله المقربين والمميزين. ففي الكثير من المواقف والمهام المهمة، سواء كانت خاصة أم عامة؛ كان الملك يختاره لها.
كان شلهوب المسؤول عن ميزانية الملك الخاصة، وتأمين جميع ما يلزم للحروب التي انخرط فيها الملك في سبيل توحيد البلاد، من عدة وعتاد وخيام وقرب ماء وفرش وأدوات الطعام والمواد الغذائية، وقد لازم الملك في كل حملاته العسكرية ورحلاته وتنقلاته، كما كفى الملك في بعض الحروب مؤونة المعارك من المال والعتاد والنفقات.
قال عنه الزركلي: (جميع المصروفات في قصور الملك تمول من شلهوب، فهو ينتظر من الملك أي توجيه بالدفع، بقوله له (ادفع يا شلهوب)، فهو وزير المال والتموين، ومهماته تشمل الكبيرة والصغيرة، من المدفع إلى عود الكبريت، يوزع الحطب، ويوزع الثياب، ويوزع السلاح، ويوزع المال بالطريقة التي تعود عليها، وغير ذلك من المهام. فبعد وفاة الإمام عبدالرحمن والد الملك عام (1346هـ / 1928م)، كان هو من يرعى شؤون القصور؛ حاملاً أمانة التكليف عند مغادرة الملك للرياض برحلة صيد أو غير ذلك، إذ إنه مسؤول عن القصور حتى يعود الملك، كما كان يشرف على ديوان الإدارة العامة الذي يعمل فيه عدد من الموظفين تحت إشرافه، ومن أشهر الكتاب الذين عرفوا: عبدالعزيز بن ناصر بن سويدان، والشيخ محمد بن عبدالله أبو عبيد، والشيخ عبدالعزيز بن قاسم، وحمد السليمان شقيق عبدالله السليمان، والشيخ صالح الصرامي، وهذه المجموعة تمثل النواة لنشأة الديوان السلطاني للملك عبدالعزيز رحمه الله.
قالوا عن شلهوب
القريبون من الملك ومن أهل البلاد، يعرفون شلهوب ومكانته في الديوان السلطاني أو الملكي، لكن بعد انتصارات الملك عبدالعزيز غدت الرياض مقصداً لرحالة أجانب وزوار عرب وغير عرب، وكان منهم أمين الريحاني الذي زار الملك عبدالعزيز في الرياض عام (1341هـ / 1922م)، وقد لفت نظره شخصية شلهوب، ومكانته في ديوان الملك، فيقول:«الشيخ محمد صالح شلهوب، مسؤول عن صرف القوائم الطويلة من الهبات والنقود التي يأمر بها السلطان عبدالعزيز ». وشاهده الريحاني وهو يوزع في يوم واحد ثلاثة آلاف عباءة مذهبة تم شراؤها من سوريا في ذلك الوقت. وكان يساعده عدد من المسؤولين في أداء مهامه المتعددة والمتنوعة، ومنهم الشيخ عبدالله بن إدريس، الملقب أحد أجداده بالقطان. كما كان نائبه على توزيع الأسلحة والذخائر الشيخ عبدالله بن عبدالعزيز العسكر. والمسؤول عن توزيع الملابس والعبي نائبه محمد بن عتيق، مع جمع كبير من الكتبة والمأمورين.
وعندما سئل الشيخ عبدالله السليمان الحمدان عن شلهوب قال: يوم عملي مع السلطان كان رئيسنا، وهو من أهل الرياض. وقال عنه وزير المعارف الدكتور عبدالعزيز الخويطر رحمه الله، في كتابه (وسم على أديم الزمن): كان شلهوب من رجال الملك عبدالعزيز الأذكياء المرموقين. وكان الأخ عبدالرحمن العمران يعرفه جيداً، فكنت أذهب معه لتهنئته بالعيد، وكنا نذهب في الثاني من أيام العيد، وذلك بسبب أن الملك فيصل والملك خالد كانا يزورانه في اليوم الأول مع عدد من الأمراء.
وهذه صورة نقلها الأستاذ عبدالرحمن الرويشد عن شلهوب، فيقول: كان والدي له صلة قرابة مع شلهوب، سأله مرةً عن عمره عندما ذهب للعمل في حائل، وكان ذلك اللقاء في دار شلهوب الجديدة (الوسيطاء)، فأجاب شلهوب: كان عمري في عهد الأمير محمد بن عبدالله بن رشيد، بين السابعة عشرة والثامنة عشرة، فعليه يكون عندما قدم إلى الرياض سنة (1320هـ / 1903م) ثلاثين سنة، ليلتحق بديوان الملك عبدالعزيز مع من التحق فيه. ويقول أنا أسن من الملك عبدالعزيز، وكان حين التحاقه شاباً قوي البنية، فارساً مفتول العضد، مدركاً أهمية الدور الذي هيأه له الله، بما أعطي من نفاذ في البصيرة وحسن التدبير. فقد وضع كل ما حققه من نجاحات في العلاقات العامة والخبرة، في خدمة مليكه ولاءً ووفاءً منه، إذ قضى في ديوان ابن الرشيد سنوات عديدة.
من قصصه
طالت سنوات خدمة شلهوب مع الملك عبدالعزيز، وكثرت قصصه في هذه السنوات، وجميع قصصه هذه جاء القصد منها تلبية مطالب الملك، ففي السنوات الأولى من حكم الملك عبدالعزيز، يوم أن كان مرابطاً في بريدة لصد أي هجوم من ابن رشيد عليها؛ ذهب الملك في التعبئة لقواته إيذاناً بحرب ابن رشيد، وكان شلهوب بمعيته، فالتفت إلى شلهوب معلناً بداية الحرب، فطلب شلهوب منه الانتظار ريثما يتم التموين للمعركة بما يكفي لإطعام الجيش، قائلاً له: ليس لدينا ما يكفي عشاء الجيش، فقال تصرف يا شلهوب، ولم تمضِ ساعات حتى كان الجيش بكامل عدته وعتاده، ولم يعلم الملك كيف استطاع شلهوب تجهيز الإعدادات للحرب، وبخاصة الطعام، فقد ذهب شلهوب بوضع صناديق خشبية فيها ما يشير إلى ثقلها، وقد قصد أحد التجار في بريدة، قائلاً له هذه ودائع تحتوي على ذهب لابن سعود، طالباً منه تزويده بالمال والأطعمة، وكانت نتيجة الحرب انتصار الملك عبدالعزيز، وقد أحضر شلهوب الصناديق من التاجر، وبعد أن وضعها في المخيم، ذهب بصندوق إلى الملك عبدالعزيز، ليطلعه على اللغز وسر تمويل الجيش، فلما فتح الصندوق شاهد الملك كتل الحديد، فقال ما هذا؟ فقال ما ترى! من خوفي على الجيش في عدم وجود ما يعينه على الحرب من طعام، أوهمت التاجر أن بها ذهباً لابن سعود، مقابل مبلغ من المال سددت فيه نفقات الحرب، حفاظاً على سمعتك وكرامتك حتى لا تخسر الحرب. وفي هذه المعركة انتصر الملك عبدالعزيز على ابن رشيد وغنم غنائم كبيرة، ولم يمضِ سوى ثلاثة شهور، حتى تم سداد الدين، وقصد الملك التاجر ليشكره على مروءته وشهامته، ثم كشف له سر الصناديق هذه، وقد رحب التاجر بالملك شاكراً إياه على زيارته له من أجل سداد الذمة، والتاجر هو (محمد بن مسفر) من تجار بريدة المعروفين.
ولا عجب أن يحظى شلهوب بسمو مكانته عند الملك عبدالعزيز، فقد كان يتصرف بنجاح في جميع القضايا التي يكلفه فيها الملك، دون أن يقول له افعل أو لا تفعل.
اتسم بالتواضع أمام السائلين وأصحاب الحاجات، فالكل يعرفه بعلو مكانته عند الملك، فكان مقصداً لأصحاب المسائل، وقد أحسن الملك عبدالعزيز اختياره في أن يكون أهلاً لأمانة سره، إذ كان هو من يستقبل ضيوف الملك من الأجانب، أو العرب، وهو ما يعرف اليوم حسب نظام كل دولة إن كانت ملكية أو دستورية بـ(مراسم الضيافة)، بحيث يُكلف شخص ما بمهمة مراسيم الاستقبال في عامة الدول، وقد مثل شلهوب هذا الجانب في عهد الملك عبدالعزيز وفي بدايات نهضة المملكة، محسناً الجواب للزائرين عندما يسألون عن الملك أو المملكة. وعندما يجد في السؤال ما يمس أمن المملكة وأسرارها؛ يحسن بذكائه الذي طبع فيه صرف السائل عن سؤاله. وقد كان يحسن الشعر، ومن ذكائه أنه كان يحفظ الشعر من أول سماعه له، سواءً أكان فصيحاً أم نبطياً. كما كان مُلماً وعارفاً بطرق الصحراء، فهو على خبرة وعلم بكثير من مناطق المملكة، وله مجلس يجلس فيه في بيته العامر في دخنة، حيث يقصده رواده وزائروه.
خلفه الكريم من أبنائه
كان شلهوب مزواجاً، وقد ترك من الأبناء ثلاثة عشر ومن البنات ثلاثاً، ورزق أبناؤه الخلف، وجميعهم أبناءً وأحفاداً كانوا في خدمة الدولة على خطى جدهم شلهوب وآبائهم. والأبناء هم: (صالح - عبدالله - عبدالعزيز - سعد -خالد - مساعد - سعود - عبدالمحسن - ناصر - مشعل - فهد - عبدالرحمن - أحمد). ومعرفتي بالشيخ عبدالعزيز من خلال إدارته معهد إمام الدعوة، وله هوى ومحبة للشام، فناسبهم بالزواج من أسرهم الكريمة، وكان عندما ينزل إلى الشام يذهب في زيارة الشيخ أحمد الشامي ذلك الرجل الصالح من أهل دوما، وهو مفتي الحنابلة فيها، من يوم وفاة شيخ الحنابلة ابن بدران، وكان دائم الحديث معي عن الشيخ أحمد الشامي.
وقد توفي محمد بن شلهوب في بيروت عام 1389هـ ــ 1969م رحمه الله.